الثلاثاء، 8 يناير 2013

نقد لقصيدة أغنيات الفقد لسلطان السبهان

نقد لقصيدة أغنيات الفقد لسلطان السبهان

القصيدة هي:
أغنياتُ الفَقْد

سلطان السبهان

[مدخل]
"لا أكذب اللهَ، ثوب الصبر منخرقٌ
عني بفُرْقته..لكن أرَقِّعُه".. ابن زريق البغدادي

سارٍ, ويحملُ في أجفانِهِ أرَقَهْ
وعينُكِ الليلة الممتدّةُ القـَلِقَةْ

سافرتُها والتفاتُ اليأسِ يُفزِعني
فكلما ذُبتُ شوقاً مَدّ لي عُنُقَه

وعُدتُ كالبدْوِ لا غيمٌ يضاحِكُهُم
كُبودُهمْ من ظما الأسفارِ محترِقةْ

أُعيذ قلبَكِ من ذكرىً تؤرِّقهُ
أُعيذه من حنيني بالذي خلَقَهْ

أٌعيذ عينَكِ من وصلٍ يكدِّرُها
إن مدّد البرْدُ في أرواحِنا قَلَقـَهْ

نَحَتـْكِ عني المقاديرُ التي كُتِبَت
فحلّة الصبرِ – مهما جُدتُ – منخرِقةْ

في ذمةِ اللهِ يا طيفاً تـَضاحكَ لي
فضاعِ عمريَ في ضِحكاتِهِ سَرِقـَةْ

ريحانة كلـَّفتـْني أن أطيرَ لهــا
روحاً لأسكُنَ من أفْقِ الهوى أفـُقهْ

تجيءُ تسرَحُ أسرابُ البلابلِ في
صدريْ, وتسْكَرُ في أحلامِها النزِقةْ

تغيبُ تَسْكُنُ في الموّالِ بَسْمَتُها
إنْ جرّهُ عاشِقٌ أضناهُ مَن عَشِقهْ

أبكِيْ الصِّبا الحُلوَ في غصْنِ تَميسُ بهِ
لم يَبْقَ منهُ لِعَيْنِ الصبِّ من وَرَقـةْ

كل الذي كانَ..أن الموتَ باغَتـَنا
وأطفأَ الحظُّ فيما بينَنا طُرُقـَهْ

كل الذي كان.. أن الغربةَ انتبهَتْ
والليلُ ذَرَ على أجفانِنا غسَقـَهْ

والشيبُ أدركَ أشعاريْ فأعجزَني
نَصٌّ يُحَدِّثُني عن صورةٍ ألِقــَةْ

في ذمةِ الله يا من جئتُ أبحثُ عن
نفسيْ فصادفـْـتـُها في غيمَةٍ ودِقَةْ

مضَت – لها الله – نحوَ اللهِ وابتدأتْ
قصائدٌ من حنينٍ تبعثُ الشفـَقـَةْ

يا للشتا..كلما النسيانُ أدفأنيْ
أرخى ذراعيْهِ للنسيانِ واعتـنَـقهْ

في ذمة الله يا روحاً سَموتُ بها
وأولُ اسمٍ فؤاديْ في الهوى نطـَقـَهْ

في ذمة الله يا كوناً يعيشُ معي
والناسُ تحسبُهُ سطراً على ورَقةْ


[مخرج]
هل كنتُ أخرجُ لو ملكتُ خلاصا !!

النقد
أغنيات الفقد، عنوان يقودنا لنص تملؤه الفجيعة والفقد والألم، والعنوان مكوّن من كلمتين :أغنيات، والفقد، فهل للفقد أغنيات؟!
لندخل إلى النص ونرى لِمَ الفقد يتربع على العنوان كمارد للحزن والشجن، ولنرى هل وُفِقَ الشاعر في اختيار عنوانه للنص أم لا ؟

مدخل:
يفاجئنا الشاعر بمدخل للنص، وهو بيت لابن زريق البغدادي من يتيمته المشهورة ( لا تعذليه فإن العذل يوجعه...) والبيت المُختار من القصيدة ( لا أكذب الله ثوب الصبر منخرق / عنّي بفرقتهِ لكن أُرقِعُهُ ) بيتٌ يصوّر عظيم الفقد وعدم القدرة على الصبر فالشاعر يحاول ترقيع ثوب الصبر المشقوق بالفراق ... وهكذا نجد هذا البيت يتماهى مع العنوان في معاني الفراق والفقد.

النص: 
يبدأ الشاعر نصّه بقوله: ( سارٍ ويحملُ في أجفانه أرقه / وعينُكِ الليلة الممتدة القلقةْ ) 
سارٍ: اسم من السُّرى في الليل وهذا يتناسب مع الفقد والفراق فهو يحمل معنى الظلمة والليل والتعب والعذاب، فهو أي الشاعر سارٍ ويحمل في أجفانه أرقه وأتى بـ (أرقه ) لتتناسب مع الاسم ( سارٍ) فالأرق مرتبط بالقلق والعذاب فلا ينام الليل لتعبه وقلقه..سارٍ الإسم يحمل معنى الثبات فكأن الشاعر دائم السرى في رحلة الفقد هذه التي تحدث عنها النص.
فالشاعر يقول عن نفسه بأنه كسارٍ في ليل طويل يحفّهُ القلق والعذاب وهو مع السُّرى والتعب يحمل في أجفانه قلقهُ وعذابه .. والليلة مظلمة طويلة مليئة بالتعب والعذاب، وعبّر عن قضائه لهذه الليلة الطويلة القلِقة بالسّفر فقال: ( سافرتُها...) أي قطعتها كمن هو مسافر، ومعروف ما في السفر من التعب والمشقة فجاء تعبيره ب(سافرتُها) متلائما مع الليلة الطويلة القلقة التي قضاها.

ثم قال: ( ... والتفات اليأس يفزعني/ فكلما ذُبتُ شوقاً مدّ لي عُنُقهْ) 
وهنا شبه اليأس بإنسان أو نقول هنا عَمد إلى التشخيص فكأن اليأس شخصٌ يتربصُ بالشاعر ليخيفه ، فكلما أذابهُ الشوق مَدّ له عُنقَهُ مذكِراً إياه بعظيم فقده وأن أشواقهُ لن تبرد بلقاءٍ يطفئ جمرها، وقوله ( مدّ لي عنقه) في اختيار العنق كناية عن شِدّة بأس هذا اليأس في حياة الشاعر حيث أن مدّ العنق أقوى وأشد تأثيرًا من الإشارة باليد مثلا.. وهذه صورةٌ أبدع الشاعر في صياغتها وتنسجم مع مطلع القصيدة.

ثم قال: ( وعُدتُ كالبدو لاغيمٌ يضاحكهم/ كبودهم من ظما الأسفار محترقةْ) 
يتحدث الشاعر عن نفسه ويقول:
بعد هذا القلق واليأس عدتُ كالبدو في حال انتظارهم الغيث بينما الغيم وهو السحاب بدون مطر لم يضحك لهم ليستبشروا به فالموسم موسم جفاف وهؤلاء البدو ليس لهم بعد الله إلا التعلق بالأسفار من مكان إلى آخر لعلّ الغيث يهطل ، وتعبير الشاعر بقوله ( كبودهم من ظما الأسفار محترقةْ) فيه كناية عن عظيم المشقة التي يتكبدها البدو في ترحالهم وبالتالي فالشاعر في أسوأ حال وكأن الجدب والشقاء غطّت أركان حياته. ثم انتقل الشاعر من حال الأرق الطويل والسفر المُضني إلى حال آخر حيث أخذ يتصوّر المحبوبة أمام عينيه فلم يكن منه إلا مخاطبتها في الأبيات القادمة فقال:
( أُعيذُ قلبكِ من ذكرى تؤرقهُ/ أُعيذُهُ من حنيني بالذي خلقَهْ%أُعيذُ عينكِ من وصلٍ يُكدّرُها/إنْ مدّد البردُ في أرواحنا قلقَهْ)
يلجأ الشاعر إلى الله تعالى ويسأله أن يحمي قلب المحبوبة من كل ذكرى تعذبه وتُقلقهُ ، وأن يحمي الله قلبها من حنين جارف يكنّه الشاعر لها.
ثم يقول أُعيذُ عينكِ من وصلٍ يُكدرها ..إن مدّد البرد في أرواحنا قلقهْ ، وهنا كأن البرد يملكُ من أمره شيئا فها هو يمدّد قلقه بين أرواح المُتحَابَين لذلك فالشاعر لجأ إلى الرقية والتعوذ بالله من كل همّ يصيب محبوبته.ثم يُخاطب المحبوبة المفقودة بقوله:
( نَحتْكِ عنّي المقادير التي كُتِبَتْ/فحُلة الصبرِ مهما جدتُ مُنخَرِقةْ)
وبعد أن أعاذ المحبوبة من حنينه وشوقه ومن أكدار الدنيا يخبرنا الشاعر عن حاله مع محبوبته فالمقادير التي لا حيلة لأحد في تغييرها نَحَتْ هذه المحبوبة وأبعدتها عن دنيا شاعرنا الذي حاول أن يرتدي رداء الصبر كما حاول قبله (ابن زريق) فإذا برداء الصبر وحلته مشقوقة فلا صبر يُغيّر ما كتبته المقادير، ثم بيّن في البيت الذي بعده لِمَ حُلة الصبر منخرقة فقال: 
( في ذمة الله يا طيفاً تَضَاحكَ لي/ فضاع عمري في ضحكاته سَرِقةْ) 
فالمحبوبة رحلت إلى حيث لا عودة فهي في ذمة الله ، ثم وصفها ب(طيفا تضاحك لي) بأنها كخيال ضاحك مرّ في حياته ولم يكن مروره عاديّا بل أن عمر الشاعر وأيامه ضاعت في ضحكات هذا الطيف الذي سرقه من نفسه.
ثم قال: ( ريحانةً كلّفتني أن أطير لها / روحاً لأسكُنَ في أُفقِ الهوى أُفُقَهْ)
يصف محبوبته الفقيدة بأنها كالريحانة في طيب المظهر وجمال الرائحة التي كلّفته أن يطير لها روحاً ليسكن أعلى قمم الهوى والحب بل ليسكن من القمة أعلاها وأشرفها، وعبّر بالطيران كناية عن سرعة وصله لها، كما أن التعبير بالطيران يتناسب مع الروح وخفّتها ومع الطّيف و سرعته.

ثم قال: (تجيء تسرحُ أسرابُ البلابلِ في/صدري وتسكرُ في أحلامها النزِقةْ%تغيب، تسكنُ في الموّال بسمتها/إنْ جرّهُ عاشِقٌ أضناهُ من عَشِقَهْ)
وهنا يصفُ أحوالهُ مع محبوبته، فمجيئها ينثر الفرح في صدره كما تنثر البلابل أغنياتها العذبة وهنا شبه مجيئها بمجيء أسراب البلابل، وذكر البلابل دون غيرها من الطيور لحسن صوتها وجمال شكلها، وقوله ( وتسكر في أحلامها النزقة) أي أن مجيئها كتحقق الأمنيات حتى المبالغ فيها من الأحلام تصبح كأنها موجودة ، أما عندما تغيب فتسكن في الموال بسمتها، واختار الموّال لارتباطه بالشجن والحزن والغياب، وهذا الموّال إنْ جرّه عاشق وغنّاه أشقى كل محبوب وأوجعه وهذا كناية عن شدة تعبه وعذابه عند غياب محبوبته عنه.

ثم قال: (أبكي الصِّبا الحلو في غصنٍ تميسُ به/لم يبقَ منه لعين الصّبّ من ورقهْ)
يبكي شاعرنا صِّبا محبوبته الراحلة التي رحلتْ وهي في أوج صباها وزهرة شبابها وشبه صباها بالغصن الذي كانت تتباهى به محبوبته فإذا به الآن بيد الموت الذي قطف أوراقه ولم يُبْقِ لشاعرنا العاشق ولو ورقة واحدة. ثم قال: (كل الذي كان أنّ الموتَ باغتنا/و أطفأ الحظ فيما بيننا طُرُقَهْ%كلّ الذي كان أنّ الغربة انتبهتْ/و الليلُ ذرّ على أجفاننا غَسَقَهْ%و الشيبُ أدركَ أشعاري فأعجزني/نَصٌ يُحدثني عن صورةٍ ألِقَهْ) بلغة مرّة ساخرة يقول بأن الموت لم يفعل شيئا سوى أنه باغت المحبوبين على حين غرّة فسلب الشاعر محبوبته بينما الحظ أطفأ طرقه وتاه عنهما و تركهما للموت والوحشة. 
وفي ( باغتنا ) معنى المفاجأة التي حطّت على حياة المتحابَين كالصاعقة، فلم يكن للموت مقدمات تهيئ النفس لتقبله بل أتى فجأة وسرق المحبوبة، ونور الحظ غاب عن حياتهما فتسلل الظلام خلف الموت ليسكن حياة الشاعر، وكذلك لم تفعل الغربة شيئا سوى أنها كانت نائمة فاستيقظت لتفرّق بينهما، وأتى الليل أيضا يحمل بيده الظلمة والوحشة والخوف فينثرها في عينيهما، والحقيقة أن الليل والغربة والموت. 
{وكلها رموز للوحشة والخوف والوحدة} أتت جميعا لتسلب الشاعر محبوبته فكأنها سلبته حياته وتركته بائسا حزينا لا صبر يتجمّل به ولا عزاء له حتى شعره الذي يكتبه أصابه الشيب والوهن والضعف فلم يعد قادرا على كتابة نص متألق نابض بالحياة. 

ثم قال: ( في ذمة الله يا من جئتُ أبحثُ عن/ نفسي، فصادفتها في غيمةٍ وَدِقَهْ%مضتْ لها الله نحو الله و ابتدأتْ/قصائدٌ من حنينٍ تبعث الشفقةْ) يودّع الشاعر محبوبته ويُصوّر حزنه وأساه فيقول في كنف الله وجواره يا من جئتُ إليها أبحث فيها عن نفسي فصادفتها في غيمة تهطل حزنا وأسى،والمصادفة هنا كانت صادمة للشاعر الذي ظن أنه سيكون في أحسن حال فإذا بحياته تتحول إلى عذاب وحزن،
ثم قال مضت لها الله نحو الله وابتدأت في حياة الشاعر قصائد ينسجها الحنين وتأسر القلوب المشفقة على حاله وما أصابه.

ثم قال: ( يا للشتا، كلما النسيان أدفأني / أرخى ذراعيه للنسيان و اعتنقه ) 
يا للشتاء ما أقساه على شاعرنا الذي اتخذ النسيان مدفأة له من أحزانه ووحشة حياته وبؤسه فإذا بالشتاء يأتي مرخيا ذراعيه للنسيان فيعتنقه ويطفئ حرارته لتعود للأيام وحشتها وبرودتها وقسوتها، وفي اختيار لفظ ( الشتاء) وما فيه من برودة وقسوة تناسب مع معاني الفقد التي في القصيدة.
كما أن الشاعر رسم صورة شعرية رائعة في تشبيهه النسيان بالمدفأة ، وفي فِعل الشتاء من اعتناق للنسيان الذي كان يسلي الشاعر ويخفف عنه فإذا بالشتاء يعتنقه و يجدد وحشته ووحدته.

ثم قال: ( في ذمة الله يا روحا سَموتُ بها / وأول اسم فؤادي في الهوى نطقه % في ذمة الله يا كوناً يعيش معي / و الناس تحسبه سطراً على ورقةْ)
يعود الشاعر إلى بكائه على محبوبته ووداعه لها فيكرر ( في ذمة الله ) وهي تحمل معنى الدعاء أن تكون في جوار الله مرحومة مغفورا لها، ( يا روحا سموتُ بها) فقد كانت كالروح لشاعرنا الذي ارتقى بحبها كما قال سابقا وسكن من أفق الهوى أفقه، كما أنها أول حب عاشه الشاعر( و أول اسم فؤادي في الهوى نطقهْ) لذلك لها مكانتها العظيمة في نفس شاعرنا العاشق.
ثم يكرر( في ذمة الله) مرة أخرى و يقول: ( في ذمة الله يا كوناً يعيش معي / والناس تحسبهُ سطراً على ورقهْ) الفقيدة كونٌ بأكمله في نظر الشاعر يعيش معه لحظاته بينما يظنها الناس سطرا صغيرا على ورقة الحياة، وهنا يبيّن لنا الشاعر عظيم قدر محبوبته ومكانتها عنده فهي الروح وأول حب وهي كون بأكمله لذلك هي تستحق أن يكتب فيها القصائد والأغنيات التي تعبير عن عميق حزنه على فقدها.

مخرج
{ هل كنتُ أخرجُ لو ملكتُ خلاصا} تساؤل مرّ يكتبه الشاعر كمخرج لنصه ولا مخرج له من حزنه ومعاناة فقده، فله الله !

البناء الفني للنص:
أحكم الشاعر بناء قصيدته في أبيات متسلسلة ومترابطة تحكمها فكرة الفقد وعظيم أثرها على الشاعر الذي أحسن التعبير عن عاطفته في صدق وإجادة، كما أن النص انفرد بصور شعرية باهرة ( كبودهم من ظما الأسفار محترقة، يا للشتا كلما النسيان أدفأني، تجيء تسرح أسراب البلابل ....)
ساهمت في الإرتقاء بالنص وتميزه على مستوى الصور الشعرية كما تميّز على مستوى اختيار المفردات وصياغتها في تراكيب منوعة تخدم الفكرة التي يدور حولها النص. وفي اختيار الشاعر لبحر البسيط وما فيه من السلاسة والعذوبة ذكاء من الشاعر كما أن قوافيه تتناسب مع روح النص وما فيه من قلق وفقد. كما كان عنوان النص عتبة موفقة للدخول إلى نص جميل ينضح بالفقد والوجع.

هذا و الله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق