الخميس، 3 يناير 2013

فرح الفاجعة

بسم الله الرحمن الرحيم

فرح الفاجعة

كانت تُقلّب سِفراً ملّ اتكاء العبوس على تفاصيل وجهها النحيل الشاحب ، و سَئِم ارتعاش أناملها و هي ترنو إلى بضائعه المُتآكِلة كالإرث المُعلق على حائطٍ طيني غادرته الأزمنة ...
تلك أوراق طفولتها المهترئة الصغيرة بكل ما تختزنه من صور عتيقة لضفائرها المتطايرة ، و حقيبتها المدرسية الهاربة من لصق الأقمشة و تضييق الثقوب الواسعة كاتساع قريتها القاحلة في كل الفصول .. ثم تلتها زمجرةُ يأسٍ قاتل يخبط في أعماقها خبط عشواء ...
و ها هي الآن ، تُمجِدُ بياض شعرها المتساقط ، و تُعاتبُ خُطى عصاها التي ما انفكّتْ تحنو عليها و تُبدد غربتها ..
ها هي تُسارِقُ أيامها النظر و لمّا يبقى لها منها سوى الرّمق .. و رغم ذلك ، لم تخبو جراحها أو يُطارِدُ نقاء البياض سوادَ أيامها المُقبلة على الأربعين خريفاً !
كانتْ قاب قوسين أو أدنى من فرح الفاجعة .. كانتْ تُجيدُ زخرفة الأحلام المورقة على صحائف من عذاب !! و كلما أبدتْ لها الأيام وجهاً اِصطنَعَتْ له الابتسام و أنبتتْ من أحداقها بيادرَ للفرح و السرور و استجدتْ جراحها لترفِدَها بأنهار الأمل و قوة العزيمة و هوان الألم .. حتى أتقنتْ ارتداء الأقنعة ...
و لكن ، و بين الأرصفة المشرعة على المجهول كانتْ تتشرد أكثر و تتقزم أكثر و أكثر !! فهل يغدو الموتُ فرحاً لها و يُطِلُّ فجرٌ ملّت انتظاره ؟!
كثيراً ما حاولتْ التملّص من جراحها الهلامية اللزجة .. حاولتْ الهربَ بعيداً حيثُ اللاشيء .. كانتْ تود الفناء و الذوبان كذرّة ملحٍ تتقاذفها الأمواج و تلفظها الشواطئ دون أن يلمحها أحد ...
حاولتْ الفرار بالتّوحد و استنشاق الألم و اكتنازه في جسدٍ يذوي و يتحلل ، فربما أعادتْ رسم الطريق مرّاتٍ تلو أخرى دون أن تكبو ، و دون أن تنهشها حواجز مجنونة الرغبة في كسر الطموح و تمزيق الأمنيات ..
لكنها فشِلَتْ حتى في الأحلام .. فلاذَتْ بالضجيج و الصّخَب .. و دخلَتْ الزحام و بدأتْ تُقلّبُ نظراتها بين الوجوه العابرة .. و أخذتْ تُصغي بصمت القبور لكل الخُطى و لكل الألسن .. و مضى بضع وقت وهي كذلك .. فشعرتْ بأنها ما زالتْ على كرسي بلا أرجل ، و الجميع لا يراها سوى حطام مهمل أثقلت الريح فألقتها على أقرب ناصية لتُشِعَ بالسواد و تنثر على المدى عبوساً .. فنهضتْ تتشبثُ بالأعمدة , و تُمارِسُ _ لأول مرة _ قرع الأبواب الموصدة ، و تتفرّس الوجوه لعلّ وجها ما يشبهها.. فكانتْ ترى الأقنعة تسقُط أمامها بلا خَجل ليصطنع العابرون العمى و الجَلَد في مواقف الضعف و الخيبة .. و يُمارِسون البطش عندما تُسأَل الرحمة .. و تأنف الكرامة عندما تنجلي الأخطاء .. و تنبري الألسن عندما يُمَجّد الصمت .. و تَغيضُ الحقيقة عندما تستأسد الظُلمة و تنمو الخديعة ...
حتى أقنعتها الشفافة تلاشتْ و أحرقتها الفاجعة .. كانتْ على الأبواب تتقاذف جراحها أيدٍ تمرّست الطعن في مقتل ، فإذا بجراحها تتدحرج بين الشفاه و العيون و الآذان و تلوكها الأقدام في كل الأزقة و الموانئ ... عندها أيقنتْ أن كل الأروقة الضاربة في الإنسانية وهماً غَرِقَتْ فيه حتى الوجع .. و ازداد يقينها أن فرح الفاجعة هو حلمها الأوحد مهما أسرفتْ في وضعهِ على رفّ النسيان .. فهل تتبدل الأزمنة ، و تنتحر الأحزان ، و تبوء بالفرح الفاجع بعد كل هذا ؟!! 
انتهت.

هناك تعليقان (2):

  1. يالروعة هذا السرد
    سلمت أناملك
    كنت اليوم أتجول في مدونتك، و استمتعت أيما استمتاع بها، و قد قررت اقتطاع جزء من يومي للتجول في بستان قلمك .

    ردحذف
  2. هل لديك كتاب يضم هذه الكلمات العذبة؟

    ردحذف