بسم الله الرحمن
الرحيم
أماني المحتضر ..قصة قصيرة
جهّزتْ أمي حقيبة
سفري و الابتسامة لا تُفارقها ( بإذن الله عندما تعودين سأرمي بهذه الحقيبة في
المخزن و لن تسافري مرة أخرى ) كثيراً ما ترتدي أمي ثياب التفاؤل ، و تُقاتل في
صبر عجيب لأُلقي بثوبي الأسود بعيداً . .. اعتادتْ أمي على وجهي المقلوب و نظراتي
الذاهلة ، و اعتادت أن تصحو على بكائي أو ضحكي .. كثيراً ما رددتْ ( هذه البنت
ستدخل يوماً مشفى المجانين ، لا تقولوا أنّي لم أقُل ذلك ؟! ) .. لم يناقشها أحد ،
الكل سلّم و آمن حتى أنا مع فارق بسيط أنّي اعتبرتُ نفسي أتأرجح على الحد الفاصل بين
العقل و الجنون .. سفري الآن إحدى مغامراتي ، مريضةٌ أنا و المرض انتشر في جسد
مُنهَك و لا أمل إلا في رحمة الله بالموت ، هكذا قال الطبيب الذي أرهق نفسه طويلا
بملاحقة سجلّي الطبي و حشوه بالمزيد و المزيد من أوراق الألم أملاً في إخماد جوعه
و كأنه لا يعرف أنه لا يشبع ! مع ذلك ، قال لي و اليأس في كلماته : ( يُقال أن
هناك علاجا جديداً بالإضافة إلى العملية و العلاج الكيميائي ، و لكن لم يجربه سوى
عدد محدود ، و للأسف : النتائج ضئيلة و احتمال المضاعفات موجود .. ) عندها سألته :
( و أين هذا العلاج ؟) أجابني بصوت خفيض : ( تحتاجين إلى السفر ، و لكن حالتكِ لا
تسمح ، سيزداد وضعكِ سواءً ) ... دائماً ما يقولون سيزداد الوضع سوءاً لكن لم يقل
لي أحد غامري ، ربما أن الأمل هناك .. و لن أنتظرهم ليقولوا .. سأذهب حتى لو عرفت
أن عقلي سيتوقف عن التفكير ، و أن أعضائي ستصبح عديمة الحركة بينما الروح تسكنني
... حملتُ حقيبتي إلى المطار وحدي .. لا أريد وداعاً و أحزاناً كاذبة .. وجه أمي
على باب المنزل ما زال يبكي في ذاكرتي الخالية من بارقة فرح تبدد الحزن و تشدّ من
عزائمي التي تكاد أن تُعيدني إلى الخلف لأنتظر موتي في ثباتٍ زائف .. ستحزن لو
عدتُ في تابوت مثلما ستحزن لو عدتُ و شعري مجدول على ظهري ... اسمي تردد
طويلاً في صالة المطار ( فضلاً : يُرجى من
السيدة أماني المحتضر التوجه إلى غرفة المدير للأهمية ) كُنتُ أتلفتُ حولي بحثاً
عن أماني .. سألتُ جارتي في المقعد : ( أتظنينها في الحمام ؟! ) نظرتْ نحوي
باستغراب و قالت : ( من هي ؟ ) قلتُ ببلاهة : ( أماني ؟ السيدة التي يسألون عنها
؟!) كنتُ أعرفُ سبب استدعائي فعندما وصلتْ
رأيت الطبيب اليائس يجلسُ في أحد الأركان و يُقلّب الجريدة ، لقد أصر على الذهاب
معي بل و نقلي على سرير و الأكسجين يخنقني .. هو من المؤمنين بشدة أن عقلي غادرني
منذ زمن ، و أنّي طفلة كبيرة .. أما أنا فأقدامي لم تطلب الراحة و ما زالت القوة
فيها لتأخذني إلى حيث أريد .. هربتُ منه دون أن يراني و انكفأت على كتاب طريف
استجدي منه الضحك وسط صالة ضاجة بالراحلين .. أنا الآن هنا أسرق اللحظات من الألم
لأكتب ، لا أشعر بغربة المكان و لا تدهشني الوجوه التي لم أر مثلها إلا عبر
التلفاز .. الطبيب اليائس غادر المكان إلى هناك ، يريد أن يخبر أمي أنّي لم أركب
الدرجة الأولى على الطائرة ، و لم أضع الأكسجين ، و أنّي تنازلتُ عن حقي في الحياة
بأخذ الدواء الجديد ، و أنّي صفعته ليبحث لي عن فرصة عمل مناسبة في المشفى لأروي
ظمأ المعرفة و أشبع فضولي ... صباح اليوم ، و بعد سفر الطبيب جاءني كبير الأطباء
هنا .. شكرني على روح التضحية ، قدّر مجيئي و أنا في النزع من أجل خدمة الطب و
تقدمه .. تحدّث كثيراً و ختم درره بقوله : ( نأسف لأن الدواء تسبب في فشل الكليتين
, أقول ذلك و أنا أؤكد لكِ أن الطب تقدم كثيراً في مسألة الغسيل الكلوي و عمليات
زرع الكلية ، و المدهش حقاً أن هناك فريقاً من الأطباء يعملون على علاج جديد
بتقنية جديدة متطورة لغسيل الكلى بدون ألم ، لتكون تجربة الغسيل الكلوي متعة
للمريض ، و سيكون من حظنا الحسن أن تنضمي إلى المتطوعين لتجربة الجهاز الجديد ..
ما ذا قلتِ ؟! ) لم أقل شيئاً و اتصلتُ بأمي أخبرها بأني سأجرب جهاز الغسيل ..
قالت بجمود : ( عودي حتى لو كنتِ مشلولة لا ينبض فيكِ سوى القلب ) أما الطبيب
اليائس فقال : ( أنصحكِ ألا تفعلي .. وضعكِ يزداد سوءاً يوماً بعد آخر .. انتظري
حتى آتيكِ ..) لن أنتظره ،، و لن أعود مشلولة .. الأمل موجود لذلك أنا موافقة ..
موافقة !!
انتهت .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق