السبت، 5 يناير 2013

أماني المحتضر .... قصة قصيرة


بسم الله الرحمن الرحيم
أماني المحتضر ..قصة قصيرة
جهّزتْ أمي حقيبة سفري و الابتسامة لا تُفارقها ( بإذن الله عندما تعودين سأرمي بهذه الحقيبة في المخزن و لن تسافري مرة أخرى ) كثيراً ما ترتدي أمي ثياب التفاؤل ، و تُقاتل في صبر عجيب لأُلقي بثوبي الأسود بعيداً . .. اعتادتْ أمي على وجهي المقلوب و نظراتي الذاهلة ، و اعتادت أن تصحو على بكائي أو ضحكي .. كثيراً ما رددتْ ( هذه البنت ستدخل يوماً مشفى المجانين ، لا تقولوا أنّي لم أقُل ذلك ؟! ) .. لم يناقشها أحد ، الكل سلّم و آمن حتى أنا مع فارق بسيط أنّي اعتبرتُ نفسي أتأرجح على الحد الفاصل بين العقل و الجنون .. سفري الآن إحدى مغامراتي ، مريضةٌ أنا و المرض انتشر في جسد مُنهَك و لا أمل إلا في رحمة الله بالموت ، هكذا قال الطبيب الذي أرهق نفسه طويلا بملاحقة سجلّي الطبي و حشوه بالمزيد و المزيد من أوراق الألم أملاً في إخماد جوعه و كأنه لا يعرف أنه لا يشبع ! مع ذلك ، قال لي و اليأس في كلماته : ( يُقال أن هناك علاجا جديداً بالإضافة إلى العملية و العلاج الكيميائي ، و لكن لم يجربه سوى عدد محدود ، و للأسف : النتائج ضئيلة و احتمال المضاعفات موجود .. ) عندها سألته : ( و أين هذا العلاج ؟) أجابني بصوت خفيض : ( تحتاجين إلى السفر ، و لكن حالتكِ لا تسمح ، سيزداد وضعكِ سواءً ) ... دائماً ما يقولون سيزداد الوضع سوءاً لكن لم يقل لي أحد غامري ، ربما أن الأمل هناك .. و لن أنتظرهم ليقولوا .. سأذهب حتى لو عرفت أن عقلي سيتوقف عن التفكير ، و أن أعضائي ستصبح عديمة الحركة بينما الروح تسكنني ... حملتُ حقيبتي إلى المطار وحدي .. لا أريد وداعاً و أحزاناً كاذبة .. وجه أمي على باب المنزل ما زال يبكي في ذاكرتي الخالية من بارقة فرح تبدد الحزن و تشدّ من عزائمي التي تكاد أن تُعيدني إلى الخلف لأنتظر موتي في ثباتٍ زائف .. ستحزن لو عدتُ في تابوت مثلما ستحزن لو عدتُ و شعري مجدول على ظهري ... اسمي تردد طويلاً  في صالة المطار ( فضلاً : يُرجى من السيدة أماني المحتضر التوجه إلى غرفة المدير للأهمية ) كُنتُ أتلفتُ حولي بحثاً عن أماني .. سألتُ جارتي في المقعد : ( أتظنينها في الحمام ؟! ) نظرتْ نحوي باستغراب و قالت : ( من هي ؟ ) قلتُ ببلاهة : ( أماني ؟ السيدة التي يسألون عنها ؟!)  كنتُ أعرفُ سبب استدعائي فعندما وصلتْ رأيت الطبيب اليائس يجلسُ في أحد الأركان و يُقلّب الجريدة ، لقد أصر على الذهاب معي بل و نقلي على سرير و الأكسجين يخنقني .. هو من المؤمنين بشدة أن عقلي غادرني منذ زمن ، و أنّي طفلة كبيرة .. أما أنا فأقدامي لم تطلب الراحة و ما زالت القوة فيها لتأخذني إلى حيث أريد .. هربتُ منه دون أن يراني و انكفأت على كتاب طريف استجدي منه الضحك وسط صالة ضاجة بالراحلين .. أنا الآن هنا أسرق اللحظات من الألم لأكتب ، لا أشعر بغربة المكان و لا تدهشني الوجوه التي لم أر مثلها إلا عبر التلفاز .. الطبيب اليائس غادر المكان إلى هناك ، يريد أن يخبر أمي أنّي لم أركب الدرجة الأولى على الطائرة ، و لم أضع الأكسجين ، و أنّي تنازلتُ عن حقي في الحياة بأخذ الدواء الجديد ، و أنّي صفعته ليبحث لي عن فرصة عمل مناسبة في المشفى لأروي ظمأ المعرفة و أشبع فضولي ... صباح اليوم ، و بعد سفر الطبيب جاءني كبير الأطباء هنا .. شكرني على روح التضحية ، قدّر مجيئي و أنا في النزع من أجل خدمة الطب و تقدمه .. تحدّث كثيراً و ختم درره بقوله : ( نأسف لأن الدواء تسبب في فشل الكليتين , أقول ذلك و أنا أؤكد لكِ أن الطب تقدم كثيراً في مسألة الغسيل الكلوي و عمليات زرع الكلية ، و المدهش حقاً أن هناك فريقاً من الأطباء يعملون على علاج جديد بتقنية جديدة متطورة لغسيل الكلى بدون ألم ، لتكون تجربة الغسيل الكلوي متعة للمريض ، و سيكون من حظنا الحسن أن تنضمي إلى المتطوعين لتجربة الجهاز الجديد .. ما ذا قلتِ ؟! ) لم أقل شيئاً و اتصلتُ بأمي أخبرها بأني سأجرب جهاز الغسيل .. قالت بجمود : ( عودي حتى لو كنتِ مشلولة لا ينبض فيكِ سوى القلب ) أما الطبيب اليائس فقال : ( أنصحكِ ألا تفعلي .. وضعكِ يزداد سوءاً يوماً بعد آخر .. انتظري حتى آتيكِ ..) لن أنتظره ،، و لن أعود مشلولة .. الأمل موجود لذلك أنا موافقة .. موافقة !!
انتهت . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق