الأحد، 3 فبراير 2013

قراءة في قصيدة أحمد شوقي(به سحر يتيمهُ)


بِهِ سِحرٌ يُتَيِّمُهُ 
                  
كِلا جَفنَيكَ يَعلَمُهُ
هُما كادا لِمُهجَتِهِ 
                  
وَمِنكَ الكَيدُ مُعظَمُهُ
تُعَذِّبُهُ بِسِحرِهِما 
                  
وَتوجِدُهُ وَتُعدِمُهُ
فَلا هاروتَ رَقَّ لَهُ 
                  
وَلا ماروتَ يَرحَمُهُ
وَتَظلِمُهُ فَلا يَشكو 
                  
إِلى مَن لَيسَ يَظلِمُهُ
أَسَرَّ فَماتَ كُتماناً 
                  
وَباحَ فخانَهُ فَمُهُ
فَوَيحَ المُدنَفِ المَع 
                  
مودِ حَتّى البَثُّ يُحرَمُهُ
طَويلُ اللَيلِ تَرحَمُهُ 
                  
هَواتِفُهُ وَأَنجُمُهُ
إِذا جَدَّ الغَرامُ بِهِ 
                  
جَرى في دَمعِهِ دَمُهُ
يَكادُ لِطولِ صُحبَتِهِ 
                  
يُعادي السُقمَ يُسقِمُهُ
ثَنى الأَعناقَ عُوَّدُهُ 
                  
وَأَلقى العُذرَ لُوَّمُهُ
قَضى عِشقاً سِوى رَمَقٍ 
                  
إِلَيكَ غَدا يُقَدِّمُهُ
عَسى إِن قيلَ ماتَ هَوىً 
                  
تَقولُ اللَهُ يَرحَمُهُ
فَتَحيا في مَراقِدِها 
                  
بِلَفظٍ مِنكَ أَعظُمُهُ
بِروحِيَ البانُ يَومَ رَنا 
                  
عَنِ المَقدورِ أَعصَمُهُ
وَيَومَ طُعِنتُ مِن غُصنٍ 
                  
مُعَلِّمُهُ مُنَعِّمُهُ
قَضاءُ اللَهِ نَظرَتُهُ 
                  
وَلُطفُ اللَهِ مَبسِمُهُ
رَمى فَاِستَهدَفَت كَبِدي 
                  
بِيَ الرامي وَأَسهُمَهُ
لَهُ مِن أَضلُعي قاعٌ 
                  
وَمِن عَجَبٍ يُسَلِّمُهُ
وَمِن قَلبي وَحَبَّتِهِ 
                  
كِناسٌ باتَ يَهدِمُهُ
غَزالٌ في يَدَيهِ التي 
                  
هُ بَينَ الغيدِ يَقسِمُهُ

بسم الله الرحمن الرحيم

قصيدة رائعة من روائع أحمد شوقي في الغزل على مجزوء الوافر، سأتناولها بالشرح و التحليل و النقد فهيا بنا في رحلة ممتعة مع قصيدة أمير الشعراء

يبدأ الشاعر نصه بقوله(به سحر يتيّمُهُ ، كلا جفنيك يعلمه)يتحدث الشاعر عن محبوبه فيصفه بأنه ساحر جميل فاتن يُتيّم العشاق و يأخذ بالألباب، و سر جماله في عينه و طرفه..و بدأ الشاعر بالجار و المجرور ليبين أن في محبوبه وحده صفات الجمال و الفتنة، ثم أن هذا المحبوب يُدرك ما يفعله في القلوب من سحر و تأثير!..و قوله: (هما كادا لمهجته، و منك الكيد معظمه)و هنا يقول بأن المحبوب كاد للعاشق الولهان و أوقعه في حبائله، و الشاعر بعد أن خصص العين بالكيد عاد إلى التعميم فقال:(منك الكيد معظمه) فالمحبوب كله فتنة.. و شبه إيقاع المحبوب للعاشق في حبال الحب بالكيد و تشبيهه رائع و مناسب لأن الكيد يحتاج إلى جهد و إعمال فكر و المحبوب لم يتوقف لحظة عن رسم طريق لسحر المحب ابتداء من سحر العيون و انتهاء بالكيد كله الذي اعترف به العاشق أو شاعرنا المتيّم.. ثم قال: (تعذبه بسحرهما،فتوجده و تُعدمُهُ) شاعرنا العاشق يواصل وصف ما فعله المحبوب فيه و يواصل وصف عيني المحبوب التي تعذب شاعرنا بجمالها الساحر ، فكأنها تبعث شاعرنا من العدم فتوجده أو تعدمه و لا تترك له أثر.. ثم قال: ( فلا هاروت رقّ له، و لا ماروت يرحمهُ) وهذا السحر الذي فعله المحبوب لا شفاء له فقد استنجد بهاروت و ماروت و هما ملكان يعلمان الناس السحر، فهاروت لم يرقّ للمحب المعذب و ماروت لم يرحمه فكأن هذا السحر لا فكاك منه حتى لو استعان العاشق بهاروت و ماروت، و في ذكر الشاعر لهاروت و ماروت و سحرهما استفادة واضحة من القرآن الكريم ،و في ذكرهما أيضاً كناية عن عظيم وجده و شدة مصابه من سحر هذا المحبوب أو المعشوق. ثم قال: ( و تظلمه فلا يشكو ، إلى من ليس يظلمه)هذا المحبوب الساحر كان في حبه ظالم لعاشقه الذي هو شاعرنا و يخبرنا عن نفسه أنه تحمّل الظلم و الألم و لم يشكو لأحد ، و في قوله (إلى من ليس يظلمه) تعريض بالمحبوب الذي يسحر و يظلم و لا يرقّ لحال عاشقه المتيّم الذي لا يشكو إلى أحد ممن يرحمه و يخفف عنه مصابه. ثم قال: ( أسرّ فمات كتماناً ، و باح فخانهُ فمهُ/ فويح المدنف المعمود ، حتى البثّ يحرمهُ) هذا العاشق صان حبّه و خبأهُ في حنايا صدره و ما يعانيه من لظى الحب كان كالموت الذي حلّ به فلا يستطيع له دفعاً، و عندما أراد أن يبوح بسره و حبه خانهُ فمه فلم يطق التعبير الصحيح عن عذابه و هنا يرسم الشاعر صورة العاشق الولهان في حال كتمانه و حال بوحه بسره و في كلا الحالين لم يذق شاعرنا العاشق طعم الراحة لذلك قال: (فويح المدنف المعمود، حتى البثّ يحرمه) و في تعبيره بالبث إجاده من شاعرنا فهو مصاب بالعشق و الحب و بثّ ألمه و شكواه أمر متعذّر عليه فكأن الويل كل الويل لهذا العاشق الذي مات كتمانا و خانه فمه عندما أراد البوح فهو محروم عاجز في أمر ذاته، و تعبير الشاعر ب( ويح )تناسب في المقام و المقال ، و تعبيره ب(المدنف المعمود) أيضا تناسب مع ما سبق من تعبير بالسحر ..ثم قال: ( طويل الليل ترحمه، هواتفه و أنجمه/إذا جدّ الغرام به، جرى في دمعه دمه) و الشاعر هنا كأنه يستعطف المحبوب فيقول: طويل الليل ترحمهُ هواتفهُ و أنجمهُ .. فمن طال ليله بالهمّ و العذاب لا يكون من النجوم و الهواتف إلا أن ترحمه و المقصود بهواتف الليل أصوات تُسمع و لا يُرى صاحبها ، فهواتف الليل و نجومه ترحم كل من طال ليله و كأن الشاعر يتساءل عن الرحمة لِمَ لا تكون من محبوبه؟ ثم قال: إذا جدّ الغرام به ،جرى في دمعه دمه ، فالغرام و الحب إذا استبد بالعاشق أضناه حتى بكى دماً بدلا عن الدموع . ثم قال: (يكاد لطول صحبته، يعادي السقم يُسقمه) فالعاشق أو شاعرنا يكاد أو أنه أصابه السّقم و أشتد مرضه لشدة حبه لمحبوبه الذي لا يرحم ، و في التعبير ب( يكاد) ذكاء من الشاعر فهي بمعنى أن الداء و السقم أصاب العاشق الولهان و التعبير بكاد تحمل معنى التأكيد الذي لا شك فيه.. ثم قال: (ثنى الأعناق عوّدهُ، و ألقى العذر لُوّمهُ) و هنا يتأكد معنى (كاد) بأن الداء أو الحب القاتل استشرى في الشاعر الولهان  فقال بأن من يعود هذا المتيّم و يزوره قد أطال المكث و كأنه ( ثنى الأعناق) و كذالك ألقى من يلومهُ في حبه له العذر و لم يعتب عليه، و في تعبيره ب( ثنى الأعناق) كناية عن إطالة الزيارة لهذا العاشق المريض.. ثم قال: ( قضى عشقا سوى رمقٍ، إليكَ غدا يقدّمهُ / عسى إن قيل مات هوىً،تقول الله يرحمه/ فتحيا في مراقدها، بلفظٍ منك أعظمه)و هنا باح الشاعر بمكنون ذاته و أجاد في تصوير ألمه و عذابه فقال: (قضى عشقاً ) فكأن الحب قضى عليه، ألم يمُتْ كتماناً؟! و لم يبق إلا الرمق القليل من الحياة ، و هنا أجاد الشاعر عندما قال: (إليك غدا يُقدّمهُ) فها هو على فراش العشق لم يبق له إلا الرمق اليسير من الحياة فيقدّمه لمحبوبه و كل ذلك من أجل أن يسأل له المحبوب الرحمة ، فإذا سأل له الرحمة فربما تحيا في مراقدها عظام هذا العاشق الذي قتله الحب و العشق، و هذان البيتان لُب القصيدة و واسطة العقد و قد أحسن فيهما الشاعر أيما إحسان! ثم قال: ( بروحي البان يوم رنا، عن المقدور أعصمه) و هنا يعود إلى وصف محبوبه مرة أخرى فيقول ( بروحي) فروحهُ تعاني ، و يوم نظر المحبوب إلى العاشق الشاعر كأن الشاعر يعصمه مما قد يصيبه من أذى . ثم قال: ( و يوم طُعِنتُ من غصنٍ، معلّمهُ منعّمهُ / قضاء الله نظرتهُ، و لُطفُ الله مبسمهُ ) و هنا يشتكي الشاعر العاشق ما أصابه من هذا المحبوب فيصفه بالغصن كناية عن الرشاقة فقال منعّمه و معلّمه فلم يرعَ العشرة و لم يحفظ للمعلم حقهُ بل أصاب معلّمه و هو شاعرنا العاشق في مقتل ، و يصفه أيضاً بأن نظرة هذا المحبوب كقضاء الله الذي لا مردّ له عندما يحين و لطفُ الله و رحمتهُ هي ذاتها ابتسامة  هذا المعشوق.. ثم قال: ( رمى فاستهدفت كبدي، بيَ الرامي وأسهمهُ/له من أضلعي قاعٌ، و من عجبٍ يُسلّمهُ/ و من قلبي و حبتهِ،كِناسٌ بات يهدمهُ/غزالٌ في يديه التيه، بين الغيد يقسمهُ)و هنا يواصل شاعرنا العاشق وصف محبوبه الذي سحرهُ و سباهُ فيقول بأنهُ رمى كبد عاشقهِ و التعبير بالكبد كناية عن أنه أصابهُ في مقتل، ثم نجدهُ يفتدى محبوبه بنفسه فيقول: ( بي الرامي و أسهمهُ) ثم برّر هذا الفداء له فقال بأن لهذا المحبوب قاع و بيت و مكانة في قلبه ,و يعجب لِمَ يتركُ هذا المحبوب ما يقدّمه له عاشقهُ من حب؟!  ثم أكد وجود هذه المكانة العظيمة التي يحتلها محبوبه من قلبه و قال: ( و من قلبي و حبّته، كناس بات يهدمهُ) أي لا يُبالي بما يقدّمه له عاشقهُ من حب ، ثم أخبرنا عن هذا المحبوب بأنه ( غزال) و هنا نستحضر كل ما للغزال من صفات الرشاقة و الجمال و السرعة ، و يصف محبوبه بأنه ( غزال في يديه التيه بين الغيد يقسمه) فلهذا الغزال تيه و دلال يقسّمه لكثرته بين الغيد و الجميلات.

البناء الفني للنص:

نص شعري سامق كعادة شعر أمير الشعراء، ينساب بعذوبة و رقة، و يتفيأ في ظلاله بصور شعرية مميزة، زادت النص جاذبية و روعة.
تتسلسل الأفكار بسلاسة و وضوح من خلال تراكيب لغوية تحمل المعنى على أكمل وجه و توضحهُ في صورة جميلة.
الألفاظ سهلة و واضحة و تتناسب مع موضوع النص و لا تخرج عنه.
و بحر القصيدة كان مناسبا لموضوعها و كذلك القافية التي أتت طائعة و مناسبة تماما.
أجاد الشاعر في نصه. و أمتعنا معه بنص غزلي راقٍ و جميل.

هذا و الله أعلم.

السبت، 2 فبراير 2013

هل أحتفل به؟!


هل أحتفل به ؟!

علّمتني الصمت عندما رحلتْ .. و علّمتها المواجع عندما كنتُ بحضرتها ...
اليوم له نفس الرائحة التي سكَنتْ حواسي منذ طفولةٍ ضائعة .. أمي و المطر و شلال حزن يمزق سنين العمر حتى آخر الخُطى ...
المطر الآن يطرق سمع المكان الآهل بالعطش .. أودية قريتي ممزقة الأحشاء ترفع أكفّ الضراعة إلى مُنزل الغيث .. و أشجار الرمان تلتحف العراء و تتشبث بالأرض من ريح لا ترحم .. أما الجبال السود و الحمر فلا ملامح لها غير القسوة و جبروت القوة ... اليوم ، قَدِمت الريحُ بالغمام حتى غطى عين الشمس ( كما يقولون ) ، و الجميع تركوا منازلهم و خرجوا لاستقبال المطر كلٌ على طريقته ، عجباً لهم ! هؤلاء سكان القرية الذابلة غادروها منذ أمدٍ طويل ، و لكن القلوب تحنّ إلى الألم في ساعات الصفو .. وحدي لم أغادر المكان ، بقيتُ مع عجائز القرية أحتسي مرارة القهوة صباحَ مساءَ و أحفر في الذاكرة ذكرى لا تموت ...
من نافذة الغرفة بدأتُ أُراقبُ احتفالهم بالمطر ، بعضهم يرفع رأسه إلى السماء ليعطر أنفاسه و وجهه بالمطر ، و بعضهم يرفع رأسه و يفتح فمه ليرتوي من السحاب مباشرة ، أما الأطفال فدخلوا تحت المزاريب ليغتسلوا بالمطر و تراب الأسطح صار صابوناً طبيعياً ... 
كم من السنين مرّت على ذلك اليوم ، أمي تصارع المطر و المرض في منزلٍ تعلو جدرانه السماء ، و الليل و الألم تضافرا في تحطيم امرأة كالنخيل لا ترضى إلا بالشموخ ، و التهكم على ريحٍ خائبة حاولت كسره ،، لكنها كُسِرَتْ !
لا أحد من هؤلاء المحتفلين كان هنا ليُقِيمَ مهرجاناً كهذا ، فرّوا إلى مدنٍ تخطف الأبصار ليبحثوا عن المال و السعادة ، تُرى ما الذي دهاهم اليوم ؟! 
أمي خرجت من بقايا منزلنا في اليوم التالي ، و في ساعة الأصيل كهذه الساعة ..
كانت الأرض قد ارتوت من الماء ، و السماء ما زال لديها فيض من الدموع تنثره على أرضٍ طينية ، و الرعد يُخيف في كفي دميتي المُتعبة ..
كان المطر يمزقها و هي تنزلق أمامي في ممر صغير صنعه المطر بالقرب من منزلنا ، كانت تنزلق إلى الأسفل حيث الصخور الناتئة و أكوام من الطوب و الحديد التي عفى عليها الزمن .. كادتْ أن تنجو لولا أنها أخطأتْ و تشبثت بصخرةٍ لا تقوى على حملها لتزلق هي الأخرى على أمي ..
لم يحفل بموتها أحد ، كوردة ذابلة بعد أن قُطِفَتْ أُلقِيَتْ فوق شارع تلوكه الأقدام لتموت أكثر و أكثر ..
ما زالت السماء تُمطر و الناس تحتفل .. و ما زِلتُ حتى الآن أفكر .. هذا المطر الذي أسكن أمي في جوف الأرض و أعطى الحياة لغيرها .. هل أحتفل به ؟!!

نُشرتْ في المجلة العربية و منتدى أوفاز الأدبي:)