الخميس، 29 أغسطس 2013

وضحى...

وضحى...
قصة قصيرة..

كانت تقف قُرب الطريق الترابي الذي يربط قريتها النائية بأقرب مدينة.. كانت صغيرة في عمر التاسعة كما قدّرتُ لها.. رأيتها تمسح جبينها وتقعد القرفصاء قرب الطريق.. طلبتُ من أخي أن يتوقف بنا عندها.. فنزلتُ ومشيتُ نحوها.. عندما رأتني أقبلتُ نحوها قامتْ واقفة وألقت نظرة نحو البعيد حيث ترعى الأغنام.. ألقيتُ عليها التحية فردّت بأحسن منها.. وبادرتني بالسؤال: أنتِ (الأبله) الجديدة؟! أجبتها: نعم، أنا هي، لماذا تقعدين هنا؟ زميلاتكِ الآن في المدرسة وأنتِ هنا، ماذا تفعلين؟! أجابت: أرعى الغنم يا (أبله) قلت: ولماذا ترعينها أنتِ؟ لماذا لا تذهبين للمدرسة ويرعاها غيرك؟! أجابت بعد تنهيدة طويلة : والله يا (أبله) أخواني في المدرسة، وأبي لا يريد أن أذهب للمدرسة، يريدني أن أرعى الغنم.. سألتها بغضب: ولماذا لا يريدك أن تذهبي للمدرسة؟ من حقّكِ أن تتعلمي أسوة بإخوتك؟! قالت وهي تتنهد مرّة أخرى: يا (أبله) نحن ثلاث بنات ولم ندخل المدرسة لأن أبي يرفض، لقد حاول معه إخواني ولكنه رفض.. سألتها: ما اسمكِ؟ وكم عمرك؟! قالت: اسمي وضحى، وعمري ثمان سنوات.. سألتها: غير رعي الغنم، ماذا تفعلين أيضاً؟! أجابت وهي تبتسم بسعادة: يا (أبله) أنا أتعلم الحروف مع إخواني.. والله يا (أبله) العلم حلو.. وقعدت بسرعة وراحت بأصابعها الصغيرة ترسم حروف اسمها على الأرض وترفع رأسها نحوي وتقول: هذا يا (أبله) اسمي.. أعرف كتابة اسمي.. وهذا اسم أختي نفلا ومنيفة.. رأيتها ترسم الأسماء بخط جميل على الأرض، فقعدتُ بجانبها وسألتها: وماذا تعرفين أيضاً؟! تجاهلت سؤالي.. قالت وهي تبتسم: قولي اسمك يا (أبله) وأنا سأكتبه.. قلتُ: (علياء).. ضحكت وقالت: (أبله عليا) والله اسمك سهل.. نفس اسم ابنة عمي.. كانت تتحدث وهي تخطّ بأصبعها السبابة اسمي على الأرض.. ثم رفعت رأسها وقالت: صح يا (أبله)؟! أجبتها وأنا ابتسم: صح يا وضحى.. صفقت بيديها وقالت: يا (أبله) أنا أحفظ سورة الفاتحة.. وأعرف قراءة السور كلها من القرآن.. ثم انطلقت تقرأ سورة الفاتحة غيباً وهي تنظر للبعيد حيث أغنامها.. ولم تكد تكملها حتى صاحت وهي تقف: مع السلامة يا (أبله) الغنم راحت.. وقبل أن أقوم من مكاني كانت وضحى تصدر صيحات متتالية وهي تركض بعيداً حيث كانت أغنامها.. أتمنى لكِ كل الخير يا وضحى.. سيبقى اسمكِ محفوراً في ذاكرتي إلى الأبد.

نُشرت في المجلة العربية11/05/2013

السبت، 20 يوليو 2013

آخر الخطوات..أبيات متواضعة:)

آخر الخطوات...

فَرِحوا بخطوي فوق أرضٍ مهمهٍ ××× و نسوا بكائي آخر الخطواتِ
للقبرِ أمضي هل تمنّوا مولدي ××× و تغافلوا عن سكرتي بفلاةِ
أمي،أبي، ما غرّ أهلي عندها ××× عن حفرتي و جهالةَ العبراتِ
يا ليتني ما كُنتُ شيئاً ليتها ××× أشلاء روحي ريشةٌ و حصاةِ
أو ليتها تطوي الفضاء كلمحةٍ ××× و تعودُ دون خطيئةٍ و شِكاةِ
يا ليتني يا قبرُ ذرّةَ تُربةٍ ××× أو ليتني ما عشتُ كل حياتي
لكنها الأقدارُ تمضي فالتمسْ ××× يا قبر ظلّي آخر الخطواتِ


كُتبتْ سنة 17/10/1425هـ
لستُ شاعرة و لكن أحببتُ أن أعرض عليكم ما كتبتهُ أملا في النقد و التوجيه:) 

السبت، 13 يوليو 2013

وطن...

                       وطن:

في فصلٍ أصبح ذكرى.. وقفتْ تتحدّثْ.. قالتْ من ضمن الأقوال: في وطني كانت أمي تنتعل حذاء الصّبار..في الأقدام تنغرس الأشواك..و هي لا تُبالي..تدافعُ عنّا .. تحمينا من لهب النار..و ذات مساء: قالت أمي بصوتٍ تخنقهُ العبرة:غداً سترحلين..خُذي بيد جدّتك و ارحلي، و دعيني هنا.. أقفُ في وجه الإعصار..ارحلي و سأحمي وحدي هذي الدّار... أرحلُ مع ضوء الفجر البائس ، انظرُ خلفي،كانت أمي تقف وحيدة بين الأطلال..في يُمناها تحملُ حجراً، و اليُسرى تُضمّدُ جرحَ أخي... أرحلُ و شوكةٌ في حلقي،انهارُ و تحملني الجدّة.. تقول: غداً نعودُ إلى هنا..غداً سيأتي يا ابنتي،غداً لنا... أرحلُ عن وطني و دياري..خلفي دماءٌ تتحرّقُ شوقاً لفتال الغاصب و الظالم.. خلفي أرضي تُسلبُ منّي.... و ما زلتُ إلى الآن أرحلُ من مكانٍ إلى آخر.. أبحثُ عن الأمان...

و في الفصل الذي أصبح ذكرى تبكي الأستاذة.. و تضحكُ أجسادٌ تتكوّر في مقاعد الدراسة.. غريبة تجلسُ وحيدة ، تكتبُ في دفترها أبيات:

هي تحكي عن بقايا من وطن××× هي تشكو الجور من هذا الزمنْ

هي لا تدري بأنّا ها هُنا××× لم نَذُق طعم المآسي و المحنْ

انتهت 

كُتبت عام 1425هـ  :)

الأحد، 30 يونيو 2013

قصة بائع الورد

بـائع الـورد
(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

المكان يضجُّ بالباعةِ والمشترين، ووحده بائع الوردِ يقطعُ مسافة قصيرة بين الجامعِ وأقرب متجر ذهابًا وإيابًا، لم يغير عادتَه منذ سنين، ولم يرتوِ الوردُ الذي يحمله، كأنَّ العمرَ الخاوي تمدَّد هناك وعلَّق في عينيه نظرةَ العدم، السماء تواطأت مع الليلِ والألم مهَّد الطريقَ، فأوسعاه حزنًا وجدبًا وعزلة.

وروده الخجلى من نظراتِ العابرين لاذتْ بصدرِه، كانت تبثه عطرَها المكنون وتلوِّح لعينيه بألوانها الشاحبة، كانت تدورُ في فلكه الصامت وتناجي نجومَ روحِه النقية، كانت تذُبُّ عنه نظراتِ الاحتقار وتبتسم له كلما انقبضَ صبره، ودس وجهه بين ركبتيه على هون.

بالأمسِ فقط تتبعتُ شقاءه؛ وهو الوجه البائس الذي أراه كل مطلع شمس، تأملتُه كأعجوبة؛ وجهه المعفَّر بالألم، شفتاه التي تسجنُ الكلمات عُنوة، عيناه التي يدورُ الخواء فيهما، ثيابه العتيقة التي لا تعترفُ بالفصول، وقدمه اليمنى الملفوفة الأصابع في (شاش) متهالِك، وفي يسراه كيسٌ صغير يواري أزهارَه، وفي يمناه طاقة صغيرة تسرَّب إليها الجفافُ من يده التي يمدها بالوردِ نحو العابرين، ثم يعيدها إلى صدرِه.

قضيتُ النهارَ أتتبعه بعيني بعد أن اشتريتُ منه وردًا، وبعد العشاءِ تسللتُ خلفه، سار كأملٍ كسيح ينتظره يائس معدم، أو كليلٍ لا يموت حتى وصل إلى عتبةِ بيت متواضع فطرقَ البابَ، فخرج رجلٌ سمين بادره بقولِه: "هل أحضرت النقود؟ لن أصبرَ عليك أكثر، إمَّا قيمةُ سُكناك أو ابحثْ عن سكنٍ آخر"، فأخرج بائعُ الورد حصادَ يومِه من النقود، ثم رفع كيسَه إلى صدرِه وضمَّه كطفلٍ، ثم دفعه إليه فأمسك به الرَّجلُ السمين وفتحه وقلَّب فيه نظرَه، ثم عبس وبسر ورفعَ الكيسَ إلى أعلى وألقى به بعيدًا وصاح في البائع: "لم يبق إلا الورد الميت تبيعُه لي! ابتعد، هيا"، وعاد إلى دارِه مغلقًا البابَ دون الحزن والشقاء.

على جمر العمر الذي استبيح على رصيفٍ مجهول انحنى البائعُ الصامت يرفع ورودَه إلى صدرِه، ويمسح عنها وجع العابرين، ومن عينيه سال نهرانِ من الذل تغسلُ انكسارَه، وتبلل وروده التي فاح شذاها وعطر المكان، حمل أزهارَه ودسَّها في كيسِه وضمَّها إلى صدرِه وأكمل المسير نحو الشارعِ المظلم، وعدتُ أنا من حيث أتيتُ يتبعني الوجوم والضآلة والشعور بالذنب.

وفي اليوم التالي لم يتعطرْ ذاك المكان بين الجامعِ وأقرب متجر بأي رائحةٍ ولم يعبأ أحد.


رابط الموضوع:
 http://www.alukah.net/publications_competitions/0/35670/#ixzz2Xjbi8ydA

الأربعاء، 26 يونيو 2013

بسبب نحلة!

بسبب نحلة!

هناك حيث الغيم والضباب مات أبي، هناك بين ألف زهرة وزهرة أسلم أبي روحه، ومن هناك انطلقت ركائب الأحزان لتقتفي طريقي الطويل، وتدنس حرم أيامي بوابل من السخط، مات أبي.. مات أبي.. ولماذا السخط وليس من الموت مفر؟ أتذكره كل لحظة وأتذكر وجهه وتفاصيله، أتذكر الجرح العميق قرب شفته السفلى.. أبي الذي مات وعمري يقارب الثماني سنوات ولم أكبر بين يديه، مات هكذا بسبب نحلة، أتذكر المكان الذي شهد موته، أتذكر الأحداث كلها، نعم، لا يستوطن ذاكرتي كأبي، وهكذا هم الأحبة يسكنون منّا الروح والذاكرة وإن واراهم الثرى وغيّبتهم الأيام، أتذكر ذلك اليوم الرمضاني الحزين، عندما طلب من أمي أن تعدّ له قائمة المشتريات لأنه سيخرج إلى السوق، وفعلت أمي، فناداني وسألني إن كنتُ سأرافقه فوافقتُ على الفور وسبقته إلى السيارة، ومضينا في الطريق، وعند مفترق طرق أخذ أبي طريقاً غير طريق السوق فسألته فقال: لي صديق عزيز خطر ببالي الآن وسنذهب لنراه ثم نعود ونذهب إلى السوق، وهكذا أكملنا الطريق إلى صديقه الذي يسكن القرية القريبة، وهكذا كان الموت يتبع آثارنا قصصاً، أتذكر أننا وصلنا القرية ودخلناها آمنين، كان أبي سعيداً جداً عندما وجد صديقه خارج المنزل، لقد نزلنا من السيارة وسلّمنا عليه، وعندما التفت أبي يميناً شاهد مجموعة من خلايا النحل متراصة فوق بعضها، فقال، ومازلتُ أذكر قوله: (حمانا الله من هذا النحل، لقد لسعتني نحلة ذات مرة وكدتُ أن أموت)، ثم أدار وجهه نحو صديقه وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث. أما أنا فلم أرفع عيني عن خلايا النحل التي بدتْ لي كأسطوانات خشبية وما هي إلا جذوع أشجار مجوّفة ومحكمة الإغلاق مع الجهتين لولا فتحة صغيرة في الأمام كان النحل يدخل ويخرج منها، كان للنحل صوت أزيز يملأ المكان، وكان يتجمع على باب الخلية بعضه فوق بعض، وكان أمام الخلايا وعاء كبير مملوء بالماء، ولم تمضِ سوى لحظات حتى وجدتُ أبي ينثني ثم يلصق ركبتيه بالأرض ثم سقط على جنبه والتصق وجهه بالتراب، أذكر أنه لم ينطق بحرف وإنما كان صامتاً مغمض العين، عندها لا أدري ما فعلتُ، لقد صرخت من أعماقي أناديه أبي.. أبي.. أبي.. وعندما لم يجِبني بكيتُ وأخذتُ أهزه هزاً وهو لا يستجيب لي، وأخذت أرفع وجهه عن الأرض وأنا أصيح، كان صديقه يردد لا حول ولا قوة إلا بالله وهو يضع يده على رقبة أبي ويحركها مرة إلى الأعلى ومرة إلى الأسفل، ثم مدد جسده على التراب وسار مبتعداً، وبقيتُ أبكي على صدره وأنوح بأعلى صوتي أبي.. أبي.. لم تمضِ دقائق حتى عاد صديق والدي ومعه رجلان، فحملا والدي بين أيديهم وأخذاهُ إلى سيارتنا المتوقفة قريباً منّا، بالكاد ابتعدت عن جسده المسجى ولم تتوقف دموعي، أذكر أنهم أبعدوني بشدة فسقطتُ على الأرض أبكي وتدحرجتُ فسقط حذائي وكنتُ أظن أن أبي سيلتفت من بين أيديهم ويناديني، كنتُ أظنه نائماً وسيفيق بين أذرعهم ويناديني.. ولكنه لم يلتفت ولم ينبس ببنت شفة.. قمتُ من سقطتي وركضتُ خلفهم وركبت السيارة عند جسده الممدد في المقعد الخلفي.. بكيت على صدره حتى نمتُ ولم أستيقظ إلا بين أحضان أمي المكلومة وجدتي المفجوعة وجدي الذي يستمسك بعصا الاصطبار كي لا يسقط.. وكبرتُ يتيماً بسبب نحلة لم تجد غير أبي تسدد له ضربتها.. ساخطاً على كل النحل وإن أهدانا العسل.. فلا عسل بعد موت أبي.

نُشرت سابقاً في صحيفة الشرق:

الاثنين، 24 يونيو 2013

راكضة بلا ألم..

راكضة بلا ألم..

هي وحدها على أطراف الزمن تبعثر الأشياء الساكنة، و تشتهي في هدوء السماء الزرقاء ركض السحاب إلى آفاق بعيدة، تكرهُ جمود أوراق الشجر و ارتحال الريح ليحتل السكون الزوايا..لا معنى للبحر دون أن تصطدم أمواجه بالصخر.. و لا تعنيها أسراب الحمام و هي تقف على أسطح البيوت في صمت مضجر..
هي وحدها على أعتاب مدينة تتسربل عفّة و حياء.. منزلها العتيق يصاحب البؤس و ينادم الفقر... لا شيء في مدينة صاخبة يُعيرها اهتماما ، حتى الشوارع و الأرصفة تتباهى بزينتها و جمالها و هي تمارس ركضها اليومي دون حذاء..البشر راكضون في هموم صغيرة أو كبيرة،لكنها تركض بلا همّ!! تلاشت الأحلام حتى في قطعة خبز نظيفة، فلِمَ الهمّ بعد ذلك؟!  و حتى الصحة و العافية لم تعُدْ همّاً يُشغلها فلا دواء لمرض ٍ استفرد بالروح.. و لا معنى لحياة جسد بلا روح!! 
هي وحدها تستمرىء الفرح و تُجامل السعادة و تضحك باستهزاء كلما أشرقت الشمس!!  لكنها لا تملّ الركض في كل اتجاه ، و لا تعرف للتعب معنى..تستوقف الزمن و تثبت قدماً في كل مكان تلامسهُ بخُطاها.. تتشدّق بالكلمات و تلعب بالحروف و تُناطح بالقلم إذا أرادت ، و قد تُقاتل باليد و القدم و العقل كأمهر لاعبي التيكوندو .. و ربما إذا اقتضى الأمر تُسابق الريح في الشوارع و تُجادل الباعة في التفاصيل الصغيرة عن كل شيء ، و في كل شيء و مِنْ أين أتى ؟ و كيف وصل؟ و كم ثمنه؟!! تدخل البيوت لتغسل، و تكنس ، و تطبخ الطعام، و تعلّم الصغار و الكبار!
 هي وحدها في شتى الميادين راكضة بلا ألم و وحدهُ الفقر و المرض ينهشُ جسداً و روحاً تُصارعُ و تُناضلُ من أجل الغير..هي وحدها تزرع الجمال في كل الأحداق، و تنثر في المدى إصرارا. و لها وحدها ترتفع الأكف بالدعاء كلما امتطتْ صهوة الغروب إلى منزل بعيد يلفّهُ السكون ليتبعثر فيه صمت الزمان و تُحيي المكان بقناديل دموعٍ لا تنتهي.


كُتِبَتْ عام 1428هـ
 نُشرت سابقاً في المجلة العربية.

السبت، 22 يونيو 2013

يا حادي العيس ... تحليل لقصيدة للشاعر : ماني الموسوس

تحليل لنص للشاعر : ماني الموسوس

لمَّا أناخوا قُبَيل الصبحِ عيسهُمُ ... و ثوّروها فثارتْ بالهوى الإِبِلُ
و أبرزتْ من خلال السّجفِ ناظرَها ... ترنو إليّ و دمعُ العينِ ينهملُ
و ودّعتْ بِبَنانٍ خِلتُهُ عَنَماً، ... فقلتُ: لا حمَلتْ رجلاكَ يا جمَلُ
ويلي من البين ما ذا حلّ بي و بها ... من نازحِ الوجد حلَّ البينُ فارتحلوا
يا حادي العيس عَرِّجْ كي أودِّعها ... يا حادي العيسِ في ترحالك الأجلُ
إني على العهدِ لم أنقض مودتهم، ... يا ليتَ شعري بطول العهدِ ما فعلوا؟


التحليل:


على عتبات الفقد و الوجع وقف شاعرنا لينسج لنا أبياتاً تتضوع حزناً و ألماً، فهاهم الأحباب أناخو العيس،و في تعبيره بالعيس دون كلمة( الجمال) إجادة من الشاعر لأن العيس هي الجمال المعدة للرحلة، فها هي الجمال تبرك ليركب الراحلون ثم تُثار الأبل لتقف و تبدأ المسير مبتعدة عن شاعرنا المفجوع.. و الشاعر أجاد في بيته الأول التصوير و الوصف لبداية الرحلة و ما يفعله الراحلون.. و في قوله ثوّروها فثارت بالهوى الأبل إجادة من الشاعر فهاهي الجمال تقف و معها يثور حبه و هواه الذي يسكنه و كأن الألم يتفجر في صدره.. و في مطلع أبياته: ( لمّا أناخوا...) تعبيره ب(لما) ممهد لشيء ما يأتي به شاعرنا في أبياته التالية.. و في البيت الثاني يواصل الشاعر وصف الاستعداد للرحيل..و يخص المحبوبة بالحديث فهاهي تبرز من خلال السجف ناظرها باكية حزينة ، و السجف الغطاء الرقيق و المقصود الهودج، فهي قد نظرت لشاعرنا باكية.. و دمع العين ينهمل..فالشاعر بعد وصف العام و استعداد القوم للرحيل خصّ المحبوبة ببيته الثاني و ركّز على تصوير حالها..و الشاعر هنا لم يقف على جمال المحبوبة أو تصوير مفاتنها لأن الموقف لا يحتمل ذلك فاهتم بما يناسب الحال و المقام.. و تعبيره بكلمة( ترنو) إجادة من الشاعر فالمحبوبة تطيل النظر لشاعرنا و دمعها ينهمل و يفيض..و الإنهمال فيض الدمع مع ضعف و إدامة، أما الإنهمار فهو سيل الدموع بقوة ففي ( ينهمل) إجادة في الاستعمال من الشاعر و تناسب القافية أيضاً. و في البيت الثالث قال : و ودّعت ببنان خلته عنما، إشارة إلى أن المحبوبة أشارت بيدها مودعة و ملوحة بكف يزينه الخضاب، و هذه الإشارة الوحيدة إلى شيء من جمال المحبوبة في الأبيات..و عبّر بالبنان و قصده الإشارة إلى خفاء إشارتها بالتوديع.. و الأبيات الثلاثة يربطها حرف العطف الواو فالمعاني تأخذ برقاب بعض.. و هنا نجد إجابة ل( لمّا أناخوا) فماذا فعل الشاعر؟ الجواب: أنه قال: لا حملت رجلاك يا جملُ! فالشاعر يدعو على الجمل الذي سيحمل محبوبته إلى البعيد..و الجملة قصيرة لكنها تحمل الأسى و الألم الذي يعتمل في قلب شاعرنا.. لا حملت رجلاك يا جملُ!.. يحترق قلب شاعرنا و ينفطر قلبه فيصيح: ( ويلي من البين...) الويل لشاعرنا من الفراق و البعد..الألم و عظيم التعب لشاعرنا الذي نزل البين بساحته و ساحة محبوبته.. ( من نازح الوجد) رحلت الحبيبة ..و حل الفراق..و ارتحلوا.. لقد ثارت الأبل و رحلت المحبوبة الآن.. فلم يبق بيد شاعرنا شيء إلا نداء لوعة و شوق و حنين مشبوب يصرخ به قائلا: يا حادي العيس..عرّج كي أودعها.. يا حادي العيس في ترحالك الأجل.... شاعرنا الموجوع ما الذي بقي لك و أنت تنادي حادي العيس غير شوق يتلظى في قلبك لمحبوبة راحلة؟! يا حادي العيس، و الحادي من يترنم بالحداء و الغناء كي تسير الأبل و تنشط للمسير الطويل.. و كأن الرحلة بدأت بل بدأت بالفعل.. و الحادي يغني.. و الشاعر يستصرخه : يا حادي العيس عرّج كي أودعها.. فقد ألجم الاستعداد للرحلة شاعرنا حتى تاه عن توديع محبوبته التي ودّعته ببنانها و دموعها بينما هو يشاهد الرحيل و قد حلّ البين بساحته... و هل يقف الحادي؟ هيهات.. و شاعرنا يؤكد ذلك فيقول: يا حادي العيس في ترحالك الأجل... الموت في رحيل المحبوبة يا حادي العيس فلا ترحل بالمحبوبة و لا تغني ففي رحلتك موتي و أجلي... و من مكان بعيد يأتي بيته الأخير و كأنه قاله بعد زمن طويل على رحيل المحبوبة: (إني على العهد لم أنقض مودتهم/ يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا) و إن كان الشاعر قد قال بيته هذا ساعة رحيل المحبوبة فكأنه يستشرف المستقبل و ينظر إليه.. و كأنه قد مضى زمن طويل على الفراق و البين و الرحيل و ما ذاك إلا لبعد المحبوب عن العين فهو يحاول أن يرسم لنا صورة ما يفعله الرحيل من ألم في قلب العاشق.. إني على العهد فأنا لم أنقض عرى المودة رغم طول العهد .. و المودة المحبة و الرحمة و هي أبلغ من المحبة فقط،وقد أحسن الشاعر في نسج هذه العبارة.. ثم ختم أبياته بتساؤل مشروع: ( يا ليت شعري بطول العهد ما فعلوا) فهو ما زال على حبه و لم تغيّر قلبه صروف الليالي، فماذا عن المحبوبة ؟! يا ليت شعري تمنى يحمل معنى الحزن الشفيف، فما ذا فعل الأحباب مع تقادم الزمن و طول العهد؟! هل اختلف الحب و تغيرت القلوب أم ما زال الود يعمر القلوب...
الأبيات تستحق التأمل، هي حزينة و مؤلمة، و بليغة .. و أحسن الشاعر نسجها بل و أبدع...
هذا و الله أعلم.

الخميس، 20 يونيو 2013

سَلاَمٌ على أيّامكم

قصيدة أعجبتني كثيرا: و أحب أن أعرضها عليكم،
إذا  قُلْتُ  يَبلى  الحبُّ  فيكم    تجَدّدا        وَعَاد  بِكُم   ذاكَ   الغرامُ   كما     بَدَا
وأنتم أَحبائي على السخطِ   والرضَى        فلا تفعلوا بي  فعلَ  ما  يفعلُ  العِدا
سَلاَمٌ   على   أيّامكم    مَا      ألذَّها        وأطيبَها   نفسي   لأيأمكم      فِدا
أيا  واردينَ  الماءَ  من  شعبِ     رامةٍ        ألَمْ   تَكفِكُم   أمواه   عيني      موردا
ويا  ساكنينَ  القلبَ  كيف     سكنتم        وفيه   من   الأشواقِ    نارٌ      توقدا
عَصَيْنا   عليكم   كل من   لاَمَ     فيكم        فلا  تسمعوا  فينا   عَذُولاً     وَحُسَّدا
هنيئاً   مَريئاً    أنْ    تنامَ    جُفونُكم        وعندي  لكم   شوقٌ   أقامَ     وأقعدا
متى  تسمح  الدُّنيا  بقرب     مَزَاركم        مَتى  تجمِع   الأيامُ   شملاً     مُبدَّدا
أحدثُ  نفسي  كلَّ   حين     بذكركم        وأسأل عنكم  كلَّ  مَنْ  راح  أوْ    غدا

ضجر...

ضجر...


من الغيمات اشربي كل همّي و أعيدي نثر أوجاعي مطر..
بدّدي الحزن
 و أطوي أضغاث حلم البارحة..
و اقتفي نبع الحيارى
،و أغسلي كفيكِ من وهم البشر..
و أعيدي رسم تاريخ الغريبة..
و احيطي سور أيام المشاعر بمرارات الكدر..
فهنا أنتِ..
و هنا نحن..
 و هنا ماتت عل كفّ ذكرانا أفانين الصور..
 و غدا الآتي سراب..
 و غدا مفرق الصبح القبر..
 فمتى تُطوى الصحف؟!
 و متى يغفو العمر؟!
 و متى ارتمي في حضن أمي
 و على جُرحها تبكي القمر؟!!
انتهت..

الثلاثاء، 11 يونيو 2013

يأس ممتد...

يأس ممتد...

قرأتُ ذات مرّةٍ:
أنا جثة تمشي على قدمٍ ××× أمّا الثياب فإنّها اللحدُ .

كم أنا ممتنةٌ لهذا الشاعر الذي عبّر عن بعض أحوالي بأصدق عبارة ، فلستُ أراني إلا جسد بلا روح.. ظلٌّ من الظلال.. وشيء لا معنى له، لكنه موجود و يتنفس الحزن و الألم..لستُ آسفة على أن يُنظر إليّ ك لا شيء .. الأمر هنا لا يعنيني و كأني لستُ نفسي..أحزن كثيراً و أبكي كثكلى مفجوعة بلا سبب.. لكني من أعماقي أحترق .. الجحيم تتقد في روحي ، و غصّة هائلة تسُدّ حلقي، و مرارة العلقم في فمي... أمنية صغيرة تنبتُ في رأسي .. أن أشدّ شعري أو أفقد عقلي و أُجَنّ  و لا ينقض عليّ ذاك الألم الذي يزدادُ وحشية كلما ازداد الليل ظلمة و عمّ السكون من حولي، ففي ذاك الوقت الذي تنام فيه العيون ، و تهدأ الأصوات تتسلل أفكار مجنونة و مريضة  و تأخذ بيدي معها في أودية الهلاك..كُنتُ أفرّ منها بالبكاء حتى زارتني ذات ليل و أقامت حفلتها المرعبة و شربنا الدموع كؤوساً مترعة.. و عندما أسفر الصبح أَبَتْ أن تغادر و نامتْ على وسادتي، كانت قاسية و ظالمة و مجنونة، و كنتُ كطفلةٍ وحيدة مذعورة و حزينة..... أقول لنفسي: هي مصاعب الحياة حفرتْ أخاديدها في الروح.. هذه الروح الموبوءة بالخوف و الترقب، هذه الروح الهائمة مع عذابات الآخرين تلتقطها و تلبسها كعقدٍ من فجائع...عذّبتني هذه الروح تُبكيني بلا سبب، و قد تحتمي بالإنسان في كل أحد فإذا به يستلّ خنجره فيطعنها في مقتل.. . هذا المساء الحزين ، ما الذي أرجوه؟! لا شيء !! ما ذا أرغب؟!  لا شيء!! انطفأت الحياة في عيني و لم يعد يهمني شيء .. و كما قال أحدهم و رددتُ خلفهُ : ( ما الذي يُغري طريداً بالحياة؟! لِمَ لا يحمل أشلاء أمانيهِ الحزينة ؟! لِمَ لا يرحل عن هذي المدينة ؟! لِمَ لا يبقى بعيداً أو يموت؟! )
انتهت:(

الجمعة، 7 يونيو 2013

جرح على جرح...

في حلقي غصة بحجم الكون..
و على شفتي حروف جمدتها المواجع فأبى لساني أن ينطق بها...
أوردتي ممر لأشواكٍ تجري منّي مجرى الدم...
ألهث خلف الأمل و اصطبر على جراحي.. يطول الطريق.. ينحر الألم ورود الأمنيات...
و ينتعل اليأس دربي... و أمضي ، أمضي أتلمس نور الأمل.. أتلمّس خط رجعة إلى حياةٍ تتنفس رضى...
..............................
...................
........
جرحي بحجم الكون فكن معي يا الله.

الأربعاء، 29 مايو 2013

حافة الرحيل

حافة الرحيل...
و في القلب متسع لجرح جديد، فلا تخافي يا جراح من الغربة و التشرد، أنا موطن للجرح فهيا يا أحزان اعصفي بقلبي و أمطريني بوابل من الأسى و الشجن...
أواهُ يا قلب .. يا مهد من أحب، كيف أصبحت مهوى العذاب، و موطن السقم؟!
أواهُ يا حزن.. كيف استبسلت و غمدت سيوفك في خلاياي كلها؟!
أواهُ يا عمري.. كيف تنبت في أحداقك الآلام؟!
أواهُ يا صمت... ألجم فمي حتى أكفّ عن البوح.. 
أخرسي يا نوف... و دعي الحزن يجري منكِ مجرى الدم ، و أشكري الله و كفى..
لكَ يا الله أبث حزني و شكواي فأجرني من عذاب نفسي بفيض عفوك يا منّان..
يا الله...
يا الله...
كن معي... و كفى..

الأربعاء، 15 مايو 2013

انتظرت ... وليتني لم أنتظر!!

انتظرت ... وليتني لم أنتظر!!

كنت أنتظر كغيري في صالة الانتظار، لا شيء يبدد الملل سوى كتاب مُمل صغير وضعته 
في جيبي تحسباً لموقف كهذا.. مرّ وقت طويل وأنا أعيد قراءة ذات الصفحة حتى قطع عليّ 
صوت رفيع بجواري وعثاء التكرار، التفت لأجد شاباً صغيراً قد جلس في جواري ولم أشعر به 
وعندما نظرت إليه قال: عفواً، كنت أسألك إنْ كنت تحبين القراءة. فأجبته من رأس أنفي 
وأنا أرفع الكتاب نحو عيني مرة ثانية: نعم. فقال بنبرة سعيدة: صحيح؟!! الحمد لله،
وهذا الكتاب عن ماذا يتحدث؟! التفت إليه باشمئزاز ونظرت نحوه
وقلت مشمئزة -أيضاً- تريد أن تقول إنك تحب القراءة، اطمئن وصلت الرسالة، 
وهذا الكتاب يتحدث عن أشياء لا تفهمها. ضحك وقال: وهل تفهمينها أنت؟ أجبته 
وأنا أكشر عن أنيابي: أنا أيضاً لا أفهمها، ما رأيك، هل أنت سعيد؟!! 
نظر في عيني بثقة وقال: لا، ومع ذلك أحب أن أعرف موضوع الكتاب. 
قلت له: عن البيئة، عن التلوث، عن الدمار، باختصار عن كل مالا يفهمه العامة. 
فقال: وأنت من العامة ولم تفهميه أم من الخاصة ولم تفكري فيه لتفهميه؟ 
أجبته بابتسامة مصطنعة: من العامة والخاصة، يعني أفهم إذا أردت، 
ولا أفهم إذا أردت أيضاً. غرس كوع يمناه في فخذه وأسند ذقنه على كفه
بينما مدّ ذراعه اليسرى إلى جواره وأمسك بالسبابة والإبهام مؤخرة حذائه الرياضي 
وأخذ يهمهم ويمط شفتيه يميناً وشمالاً ثم التفت نحوي صارخاً: أنتِ تفهمين ما تريدين 
وتتركين مالا تريدين؟! أنت أصلاً جباااانة! اصطنعت الهدوء وابتسمتُ ببلاهة 
وأنا أنظر إليه وضع كفه خلف ساقه اليسرى وراح يرفعها تارة ويعيدها تحت الكرسي 
مرة أخرى وجسمه يهتز وذقنه مازالت تستند إلى كفه اليمنى الواقفة على فخذه 
ثم قال بنبرة جادة: لِمَ لا تعترفين بأنك لا تفهمين فهذا ليس عيباً،
ويمكنك الاستفادة من وقتك بقراءة كتاب تفهمينه! أجبته بطرف لساني: أحب قراءة مالا أفهم،
أنشّط عقلي ياأخي، ثم إني لم أطلب رأيك، ولا تتدخل فيما لا يعنيك!! قام من مكانه
وعاد ليجلس على الكرسي الآخر المقابل لي وعيناه تخترقني. قال وهو يعقد ذراعيه 
على صدره: تدخلت لأنك كنت تعيدين قراءة ذات الصفحة عدة مرات مع أن تلك المعلومات سهلة 
وواضحة ولا تحتاج لعقلية (أينشتاين) لفهمها. سألته باستخفاف وأنا ألقي بالكتاب على 
المقعد الذي كان يجلس عليه: حقاً، وما أدراك أنها سهلة؟! أجابني وهو يرمقني شزراً من
إصبع قدمي الصغير إلى أعلى شعرة في رأسي: هذا الكتاب، وبالذات هذا الكتاب، 
ألّفه والدي ضمن سلسلة تهتم بثقافة طلاب المراحل الثانوية، وفي مدرستنا يعتمد 
عليه بعض زملائي الذين يحتاجون إلى تبسيط المعلومات، بمعنى: لا تخبري ابنك 
أنك لا تفهمين كتاب تبسيط العلوم؛ لأنه سيراك غبية!! نظرت إليه وقد فتحت الدهشة فمي وقلت
متسائلة: كتاب تبسيط للطلاب؟! قام من مكانه واتجه إلى الباب ثم التفت نحوي 
وقال: انظري إلى الغلاف جيداً لتتأكدي وخرج. أخذت الكتاب ونظرت إلى الغلاف لتتسع عيناي 
عن آخرهما: الكتاب رقم 3 من السلسلة الميسرة في العلوم، يصلح لأذكياء المتوسطة وطلاب الثانوية!!

انتهت..

الأربعاء، 17 أبريل 2013

ويا سلوة الأيام موعدك الحشر


ويا سلوة الأيام موعدك الحشر

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)


عندما دخَل ابن أخيها الصغير هرَعت إليه تضمُّه إلى صدرها، ودموعها عادَت تغسل قلبها وأيامها من وَجَعٍ لا تقوى على احتماله، تمنَّت أُمنيتها المستحيلة أنْ لو كانت ابنتها بين ظهرانيها، ولكن هَيْهَات، تضم الصغير أكثر إلى صدرها وهي تحاول الفرار من ذكريات أقضَّت مَضجعها، تسوَّر الجَزع محراب الصبر، وصار الأسى واليأس أصدقاءَ الثواني والدقائق، توفي والدها في حادث أليم ترَكها طريحة الهمِّ والحزن، وما أفاقَت إلاَّ على نار الخلاف التي اشْتَعَلت بين رفيق الدَّرب وأشقَّائها الذين راغوا إليها يتخافتون، وأقْسموا ليصرمنَّ عُرَى الأُخوَّة معها إنْ لَم تتنازلْ عن حقِّها في الميراث؛ حتى لا يذهب إلى زوجها الذي أعدُّوه غريبًا، أحْزَنها أن رضوا قبل سنوات قلائل أن تَبني معه بيتًا في الإسلام، وها هم الآن ينقضون عهد الرَّحم بينهم، لَم يَقبل زوجها أن تتركَ حقَّها، وعاهَدهم سرًّا وعلانية ألاَّ يقربَ لها مالاً، ولكنهم أبَوا إلاَّ هَدْمَ بيتها، فإذا هي في الحياة يتيمة مسرَّحة، تَحمل في بطنها أوَّل ثمرة حبٍّ، كانت تقول لنفسها وهي تحاول ما استطاعَت رأْبَ الصَّدع: "أخشى أن يأتي ما في بطني، فيكون محرَّرًا للحزن والشقاء".

ما إن فاجَأها المخاض إلى المشفى وأنْجَبت، حتى انتبذَ أشقَّاؤها بصغيرتها مكانًا قصيًّا، فلم تقرَّ بها عينًا لعشر سنين، كانت تُمنِّي النفس بالآمال تَرقبها، فإذا بالنجوم تدنو وصغيرتها عن نظرها أبعد، كان طليقها قد حَمَل الصغيرة وسافر بعيدًا، وبَقِيتْ هي تتنقَّل بين بيوت أشقَّائها تَجمع المصاعب في حقائب الصبر، وتستعين بالواحد القهَّار، وهي تدعو كلما خرَّت ساجدة: "اللهمَّ يا كاشف الغمِّ، ويا فارج الهمِّ، فرِّج همِّي ويَسِّر أمري".

وذات مساء كان إخوتها يَلتفون حولها وحولهم أكبادهم التي تمشي على الأرض، يمرحون ويلعبون، فُغِر فاهُ الجُرح الذي لَم يَندمل، فقامت تصيح فيهم: "أريد ابنتي، أعيدوا إليّ ابنتي، ماذا بَقِي وقد هُدِمَ بيت، وكُسِرَ قلبٌ، وتَشَتَّتَ شَمْلُ أسرة بنَتْ بيتها على التقوى؟!"، قالت ذلك وأخذت تبكي.

بعد أيام طرَق أخوها الأصغر - الذي كانت تقضي فترة سكناها الشهرية معه، ثم تتنقل بين بيوت إخوتها - باب غُرفتها، ودخَل مُقَبِّلاً رأسها ويديها، وطالبًا منها السماح، قائلاً: "تعلمين أنَّ أشِقَّاءَك حرَّموا فتْحَ موضوعكِ منذ طلاقكِ، ويعلم الله أنَّ حالكِ لا يُرضيني، وكم حاوَلت معهم، ولكنهم يحبون التراث حبًّا جمًّا، ومع ذلك يا أُختاه لن أسكتَ أكثر من هذا، سأسافر إلى زوجكِ السابق وأحضر ابنتكِ، وأحاول معه لعلَّه يَقبل أن تعود بينكم حياةٌ تَملؤونها سعادة"، فَرِحت به، بكل كلمة قالها، بكل حرفٍ نَثَر التفاؤل في حالِك أيَّامها، سجَدتْ شكرًا، ثم انكبَّت على أخيها تقبِّل رأسه وقَدَميه والفرح يطوِّق جِيدها بكلِّ ألوان البهجة.

وفي اليوم الموعود للُقْيَا ابنتها، أعدَّت للقاء ألفَ ألف أنشودة فرحٍ، وألف ألف ابتهال شكرٍ رفَعته للواحد القهَّار، في ذلك اليوم ذهبَت إلى السوق، فاشْتَرت من الثياب أحلاها، وانطلَقت إلى محل الألعاب وانتَقَت أغلاها، وهَرَعت إلى بائع الحلوى واشْتَرت حتى ملَّت، واسْتَعَدَّت لاستقبال ابنتها التي أصبَحت مع خالها في طريق سفر إليها بحفلة صغيرة، لكنَّ النهار انقَضى وتَبِعهُ الليل، وشمس أخيها وابنتها لَم تُشرق بعدُ.

في اليوم التالي انقَلب ترقُّب الفرحة إلى توجُّس وخيفة، والابتسامة ارْتَدَت ثوب الشحوب، والصمْت غطى على كلمات الفرح التي كانت تَنثرها.

دخَل شقيقها الأكبر فنطَق، وكم تمنَّت لو كان الموت أسبقَ لرُوحها من كلماته لأُذنها، عرَفت أنَّ الراحلين لا يعودون، وأنَّ الموت سلَب أرواح أحبابها تحت عجلات سائق متهوِّرٍ.

عَلَّقت المشانق لأحلامها مع ابنتها، فها هي تُغادر ولَم تَفرح بضمِّها وشمِّها، لَم تسمع منها "ماما"، ولَم تأخذ بيدها إلى أوَّل طريق للعلم، لَم تُمَشِّط لها شعرها، ولَم تَمسح جَبينها، ولَم تقلِّم حتى أظفارها، وها هو الأخ الحنون غادَر هو الآخر، تاركًا لها أبناءَه الصغار يذوقون مرارة اليُتم.

مَسَح الصغير دموعَها وسألها بحزن: "لماذا تَبكين؟!"، لَم تُجبه، بل ضمَّتُه أكثر وأكثر.

تمَّـت.

الأحد، 24 مارس 2013

قراءة في قصة الألم لأنطون تشيكوف


قراءة في قصة الألم لأنطون تشيكوف

القصة:
الأَلــَم قصة قصيرة للأديب أنطون تشيكوف 


عُرف غريغوري بتروف ولسنوات طويلة ببراعته الفائقة في حرفة الخراطة ، لكنَّه في نفس الوقت كان الأكثر حمقًا وسذاجة في إقليم (غالتشينيسكوي)، فلكي ينقل زوجته المريضة إلى المستشفى ، كان عليه أن يقود الزلاجة لمسافة عشرين ميل في جو شتائي عاصف ، عبر طريق شديدة الوعورة .. ولم تكن تلك بالمهمة اليسيرة حتى بالنسبة لسائق البريد الحكومي..كانت الرِّياح القارصة تضرب في وجهه مباشرة ، وسحب الثلج تلتف في دوامات حوله في كل اتجاه ، حتى أن المرء لا يدري إن كان هذا الثلج يتساقط من السماء أم يتصاعد من الأرض ، بينما الرؤية معدومة تمامًا لكثافة الضباب الثلجي ، فلم يكن يرى شيئًا من الحقول والغابات وأعمدة التلغراف .. وعندما كانت تضربه ريح قوية مفاجئة ، كان يصاب بالعمى التام ، فلا يعود يبصر حتى لجام الحصان ، ذلك الحيوان البائس الذي كان يزحف ببطء وهو يجرُّ قدميه في الثلج بوهن شديد .. وكان الخرَّاط قلقًا متوترًا ومتعجلا لا يكاد يستقرُّ في مقعده وهو يسوط ظهر الحصان .

كان غريغوري يغمغم طول الوقت متحدثًا إلى زوجته . 

- لا تبكي يا ماتريونا .. قليل من الصبر يا عزيزتي .. سنصل المستشفى وعندها كلُّ شيء سوف يكون على ما يرام .. سيعطيك بافل ايفانيتش بضع قطرات ، أو سأطلب منه أن يعمل لك الحجامة ، أو ربما يتكرَّم ويرضى أن يدلك جسدك بالكحول .. سيبذل كل ما في وسعه دون شك .. نعم سيصرخ وينفعل لكنه في النهاية يبذل جهده .. إنه رجل مهذب ولطيف .. فليعطه الله الصحة .. حالما نصل هناك ويرانا سيندفع من غرفته كالسَّهم ويبدأ بإطلاق السباب والشتائم .. وسوف يصرخ : كيف ؟ لماذا هكذا ؟ لماذا لم تأتوا في الوقت المناسب ؟ أنا لست كلبًا كي أبقى عالقًا هنا في انتظار حضراتكم طوال اليوم .. لماذا لم تأتوا في الصباح ؟ هيا اخرجوا ، لا لن أستقبلكم .. تعالوا غدًا .. فأرد عليه قائلا : يا حضرة الطبيب المبجل بافل إيفانيتش ، نعم يمكنك أن تسب وتلعن وتشتم .. وليأخذك الطاعون ..
أيها الشيطان ..

ساط الخرَّاط ظهر الحصان ، ومن دون أن ينظر إلى المرأة العجوز الراقدة في العربة خلفه واصل حديثه مع نفسه : 

- يا حضرة الطبيب المبجَّل ، أقسم بالله ، ولن أقول إلا الصدق ، و هو أنني انطلقت قبل طلوع الفجر ، ولكن كيف يمكنني أن أكون عندك في الوقت المناسب وقد أرسل الرب هذه العاصفة الثلجية ؟ تلطَّف وانظر بنفسك .. إنَّ أفضل الجياد لن تتمكن من السير في جوٍ كهذا ، وحصاني هذا الكائن البائس التعيس كما ترى بنفسك ليس حصانًا على الإطلاق. عندها سيقطب بافل ايفانيتش حاجبيه ويصرخ : نحن نعرفكم ، أنتم دائمًا بارعون في اختلاق الأعذار ، وعلى الأخص أنت يا غريشكا .. فأنا أعرفك حق المعرفة ، وأقسم بأنك توقفت في نصف دزينة من الحانات قبل أن تأتي عندي. لكني سأقول له : أيها المحترم ، هل أنا كافر أم مجرم حتى أتنقَّل بين الحانات بينما زوجتي المسكينة تلفظ أنفاسها الأخيرة ؟ لعنة الله على الحانات وأصحابها وليأخذهم الطاعون جميعا .. 

سيأمر بافل ايفانيتش عندها بنقلك إلى داخل المستشفى ، فأركع عند قدميه .. : بافل ايفانيتش ، أيها المحترم ، نشكرك من صميم قلوبنا ، وأرجو أن تسامحنا على حماقاتنا وسلوكنا الأرعن ، وألا تكون قاسيًا معنا نحن الفلاحون .. نعم نحن نستحق منك لا الشتيمة بل الرَّفس ، وقد كنَّا سببًا في خروجك وتلويث قدميك في الثلج .. سينظر بافل ايفانيتش نحوي كأنَّه يريد أن يضربني وسيقول : ألا يجدر بك أيها الأحمق أن تشفق على هذه المسكينة وترعاها بدلا من أن تسكر وتأتي لتركع عند قدمي ؟ والله أنت تستحق الجلد .. نعم ، نعم .. أنت على حق في ذلك .. أنا أستحق الجلد يا بافل ايفانيتش ، فلتصب السماء لعناتها على 
رأسي ، ثم ما الضَّير لو ركعت عند قدميك ، فأنت أبونا و وليّ نعمتنا ، 

ويحق لك يا سيدي أن تبصق في وجهي لو بدر مني ما 
يضايقك ، وأقسم بالله على ذلك .. سأفعل كلَّ ما تريده وتأمرني به .. إذا استرجعت زوجتي العزيزة ماتريونا صحتها .. وإذا أردتَ أصنع لك علبة سجائر فاخرة من أفضل أنواع الخشب ، كراتٍ للعبة الكروكيت ، أو أروع قناني خشبية للعبة البولنج .. ولن آخذ منك قرشا واحدًا .. في موسكو تكلف علبة السجائر أربع روبلات ، لكني سأصنعها لك دون مقابل. عندها سيضحك الطبيب ويقول: حسنًا ، حسنًا .. يبدو أنَّك سكران حتى الثمالة .. كما ترين يا عزيزتي فأنا أعرف كيف أتعامل مع أبناء الطبقة العليا .. ليس هنالك من سيد يستعصي علي .. فقط أدعو من الله ألا أفقد الطريق. انظري كم عنيفة هي الريح .. لا أكاد أفتح عيني من شدة اندفاع الثلج .

ولم يتوقَّف الخراط عن حديثه المتواصل مع نفسه ، في محاولة منه على ما يبدو للتخفيف من ضغط المشاعر الحادَّة عليه .. كانت الكلمات كثيرة على لسانه ، وكذلك الأفكار والأسئلة في رأسه .. جاءه الحزن مفاجئًا ، دون توقُّع 
أو انتظار، وعليه الآن أن يتخلَّص منه .. لقد عاش حياته في سكينة وسلام دون أن يعرف للحزن أو للبهجة معنى ، وفجأة ، دون سابق إنذار ، جاءه الألم ليعشش بين تلافيف قلبه ، فوجد السكِّير المتسكِّع نفسه في موقع المسئول ، مثقلا بالهموم ، ويصارع الطبيعة . 

وراح غريغوري يتذكَّر كيف ابتدأت المشكلة ليلة أمس عندما عاد إلى البيت سكرانًا بعض الشيء ، وكالعادة انطلق يشتم ويهدِّد بقبضتيه ، فنظرت إليه زوجته كما لم تنظر إليه من قبل .. عادة ما تشف نظرات عينيها عن الذلِّ والاستكانة الشبيهة بنظرات كلب أشبع ضربا .. لكنها هذه المرة نظرت إليه بتجهُّم 
وثبات ، كما ينظر القديسون في الصور المقدَّسة أو كما ينظر الموتى .. من نظرة الشرّ الغريبة تلك بدأت المشكلة .. وفي حالة من الذهول والاستغراب استعار حصانًا من أحد الجيران كي ينقل زوجته العجوز إلى المستشفى لعله باستخدام المساحيق والمراهم ، يستطيع بافل ايفانيتش أن يعيد التعبير الطَّبيعي لنظرة عينيها .

ويستمر الخرَّاط في حديثه مع نفسه فيقول : 

- حسنًا ، اسمعيني يا ماتريونا ، لو سألك بافل ايفانيتش فيما إذا كنت قد ضربتك ، يجب أن تنفي ذلك وسوف لن أضربك بعد اليوم ، أقسم على ذلك .. وهل ضربتك يومًا لأني أكرهك ؟ لا ، إطلاقًا .. إنما دومًا أضربك وأنا فاقد لوعيي .. أنني حقًّا أشعر بالأسف من أجلك .. لا أظنُّ أنَّ الآخرين سيبالون مثلي ، فها أنت ترين ، إنني أفعل المستحيل في هذا الجوِّ الثلجيِّ العاصف كي أصل بك إلى المستشفى .. فلتتحقَّق مشيئتك أيها الرب ، وإن شاء الله لن نخرج عن الطريق .. هل يؤلمك جنبك عزيزتي ؟ ألهذا أنت لا تتكلمين ؟ إني أسألك ، هل يؤلمك جنبك؟

لاحظ خلال نظرة خاطفة إلى العجوز بأن الثلج المتجمِّع على وجهها 
لا يذوب .. والغريب أن الوجه نفسه بدا مسحوبًا، شديد الشُّحوب، شمعيًّا، جهمًا ورصينًا. صرخ قائلاُ :
- أنت حمقاء ، حمقاء .. أقول لك ما في ضميري أمام الله ، لكنَّك مع ذلك تصرِّين على ..حسنًا ، أنت حمقاء ، وأنا قد أركب رأسي .. ولا آخذك إلى بافل ايفانيتش . 

أرخى اللجام بين يديه وبدأ يفكر .. لم يكن في مقدوره أن يستدير تمامًا لينظر إلى زوجته .. كان خائفًا .. وكان يخشى أيضا أن يكرِّر أسئلته عليها دون أن يحصل على جواب .. أخيرًا ، وليحسم الأمر ، ومن دون أن يلتفت إليها رفع يده وتحسسها .. كانت باردة ، وعندما تركها سقطت كأنها قطعة خشب .. ندت منه صرخة .

- إذن فهي ميتة ، يا للمصيبة .. 
لم يكن آسفًا قدر انزعاجه .. وفكَّر كيف أنَّ الأشياء تمر سريعة في هذا العالم .. لم تكن المشكلة قد ابتدأت وإذا بها تنتهي بكارثة .. لم يسنح له الوقت كي يعيش معها ويكشف لها عن أسفه قبل موتها. عاش معها أربعين عامًا لكنها مرَّت في ضباب وعتمة مطبقة .. لم يكن هنالك من مجال للأحاسيس الجميلة وسط السُّكر والعربدة والشجار المتواصل والفقر المدقع .. ولكي تغيظه فقد ماتت في اللحظة التي بدأ يشعر فيها بالأسف عليها ، وبأنَّه لا يستطيع العيش من دونها وأنه كان قاسيًا معها وقد أساء لها كثيرًا .
قال لنفسه متذكِّرًا : 
- كنت أبعثها كي تدور في القرية تستجدي الخبز .. كان يمكن أن يطول العمر بها لعشر سنوات أخرى .. المصيبة أنها ماتت وهي تعتقد بأني ذلك الإنسان .. 
يا إلهي .. ولكن .. إلى أين أنا ذاهب الآن ؟ ما عاد بي حاجة إلى الطبيب ، 
ما أحتاجه الآن قبر كي أدفنها فيه .

استدار بالزلاّجة وهو يلهب ظهر الحصان بسوطه ، وقد ازداد الجو سوءًا حتى انعدمت الرؤية تمامًا.. ومن حين لآخر كانت تضرب وجهه ويديه أغصان الأشجار وتخطف من أمام عينيه أجسام سوداء .
- لو أعيش معها مرة أخرى . 
وتذكَّر بأن ماتريونا قبل أربعين عامًا كانت مليحة الوجه مرحة الروح ، وهي من عائلة ميسورة الحال ، وقد رضي أهلها أن يزوِّجوها له بعدما شاهدوا وعرفوا مدى براعته في مهنة الخراطة .. كانت كلُّ الأسباب لحياة سعيدة متوفرة لهما ، لكنَّ المشكلة أنه في ليلة عرسه شرب حتى الثمالة ومن يومها وهو سكران طول الوقت ولم يستيقظ أبدًا .. نعم فهو يتذكَّر عرسه ، ولكنه لا يتذكَّر شيئًا مما حدث بعد ذلك وطوال حياته ، باستثناء أنه كان يسكر ويضطجع عند الموقد ويتشاجر. هكذا ضاعت منه أربعون سنة .

بدأت الغيوم الثلجيَّة البيضاء تتحوَّل تدريجيًّا إلى اللَّون الرَّمادي مما ينبئ عن قرب الغسق .. عاد يسأل نفسه : 
- إلى أين أنا ذاهب ؟ مطلوب مني أن أفكر بدفن الجثة .. بينما أنا الآن في طريقي إلى المستشفى ..كأنَّني فقدت عقلي ..
واستدار بزلاجته ثانية .. كان الحصان يشخِّر وراح يتعثَّر في خببه ، فعاد الخراط يجلده من جديد .. وكان يسمع صوت ارتطام خلفه ، ومن دون أن يلتفت كان يعرف بأنه صادر عن رأس العجوز وهو يضرب بحافة المقعد .
ازداد الثَّلج عتمة ، واشتدت برودة الريح .
- لو أعيش معها مرة أخرى ، سأشتري مخرطة جديدة ، وأشتغل .. وأجلب لها الكثير من النقود . 
أفلتت يداه العنان .. بحث عنه .. حاول أن يلتقطه ، فلم يستطع .. قال 
لنفسه :
- لا يهمُّ .. يستطيع الحصان أن يتولى الأمر بنفسه ، فهو يعرف الطريق .. 
يمكنني أثناء ذلك أن أنام قليلا قبل أن أتهيَّأ للجنازة وصلاة الميت .. 

أغلق الخرَّاط عينيه وغاص في إغفاءة .. بعدها بفترة قصيرة شعر بأنَّ الحصان قد توقَّف عن السير.. فتح عينيه فرأى أمامه شيئًا معتمًا يشبه كوخًا أو كومة من القشّ . أراد أن ينهض ليكتشف ذلك الشيء ، لكنَّه أحسَّ بأنه عاجز تمامًا عن الحركة ، و وجد نفسه دون ضجَّة أو مقاومة يستسلم لنومٍ هادئ عميق .

عندما استيقظ ، وجد نفسه في غرفة فسيحة ، مطليَّة الجدران ، وضوء الشمس يتوهَّج عند الشَّبابيك. ورأى أناسًا حوله ، فكان شعوره الأول أن يعطي الانطباع بأنه سيِّد محترم ويعرف كيف يلتزم بالسلوك السَّليم الذي يفرضه الموقف. قال مخاطبًا إياهم : 

- الصلاة على روح زوجتي أيها الإخوة . لابدَّ من إعلام القس بذلك...
قاطعه أحدهم بصوت حازم :
- حسنًا ، حسنًا ، ولكن لا تتحرك .
صرخ الخرَّاط مندهشًا وهو يرى الطبيب أمامه :
- بافل إيفانيتش ! وليّ نعمتنا المبجَّل .
أراد أن يقفز ليركع على ركبتيه أمام الطبيب ، لكنه شعر بأن ساقيه وذراعيه لا تستجيبان له . صاح مرعوبًا : 
- أين ساقيَّ ؟ وأين ذراعيَّ يا سيدي ؟
- قل لهما وداعًا.. كانت متجمدة تماما فاضطررنا إلى بترها.. هيّا .. هيّا ..
علام تبكي ؟ لقد عشت حياتك ، واشكر ربك على ذلك . أنت الآن في الستين على ما أعتقد ، وأظنُّ أن هذا يكفي بالنسبة لك .
- أنا حزين ، حزين جدًّا ... وأرجو أن تسامحني يا سيدي . 
كم أتمنى لو أعيش خمس أو ست سنوات أخرى .

- لماذا ؟ 
- الحصان ليس لي ، ويجب أن أعيده لأصحابه .. ويجب أن أدفن زوجتي ... 
أوه يا إلهي ..كم تنتهي الأشياء بسرعة مذهلة في هذا العالم . 
سيدي بافل ايفانيتش ، سأصنع لك علبة سجائر من أجود أنواع الخشب ، وكذلك كرات للكروكيت ... 

غادر الطبيب الجناح وهو يلوِّح بيده .. كان كلُّ شيءٍ قد انتهى بالنسبة للخرَّاط .
أنطون بافلوفيتش تشيكوف
ترجمة : رافع الصفار ( بتصرف )

قراءة في قصة الألم لأنطون تشيكوف
يحكي لنا تشيكوف قصة رجل بارع في الخراطة ،يعود ذات مساء إلى بيته فيجد نظرة زوجته متغيرة عليه، يعرف أنها مريضة فيحملها على زلاجة بعد أن استعار حصاناً ليأخذها إلى الطبيب في جو شتائي عاصف، و طوال الطريق يظل يعتذر لها و يُبدي أسفه لأنه كان سكيرا و يضربها دائما ، و يُبدي قلقه من الطبيب و يصطنع حواراً مع الطبيب ليقنعه بمعالجة زوجته مقابل أن يصنع له علب سجائر بالمجان أو كرات للكروكيت. ثم يكتشف أن زوجته ماتت، فيعود بالحصان و في طريق العودة يفقد عنان الحصان فيقول لنفسه بأن الحصان سيعرف الطريق فينام ليصحو أخيرا في غرفة مشمسة مليئة بالناس فيخبرهم بأن زوجته ماتت لكن الطبيب ينصحه بعدم الحركة ليكتشف الرجل أن ساقاه و ذراعاهُ قد بُتروا نتيجة لتجمدهما.. لا يأبه الرجل بذلك و يقول أن الحصان مستأجر و أنه على استعداد ليصنع للطبيب علب سجائر خشبية أو كرات للكروكيت..
في هذه القصة تحالف المرض و الفقر و العاصفة  في إيقاع أقسى الألم على روحين اثنين ، الزوجة التي عانت الفقر المدقع مع زوجها السكير طوال الوقت و الذي كان يضربها حتى ذهب عنها ماء الحياة ، و الزوج الذي لم يمهله الموت ليعتذر من زوجته و يبين لها حبهُ لها و أسفهُ عليها.. ثم تظهر براعة تشيكوف في رسم هذه المأساة بلون أسود كحزن ليل طويل عندما يجعل الزوج يتعرض لبتر ساقيه و ذراعيه فكأنه هنا يحلّ عليه عقوبة أفعاله فيفقد القوة و الاستقلالية و مجابهة الحياة .. ليغدو عاجزا عن أبسط مقومات الحياة و ليس له سوى لسان يتحدث فقط ... الزوجة المريضة قد تكون رمزاً لأحلام طويلة جاهد الإنسان لتحقيقها رغم عيوبه و نقصه ، و عندما طال الطريق ماتت الأحلام بعاصفة الهزيمة و الضعف فتحطمت رغم محاولة السعي لإنقاذها من مصيرها المأساوي..و بعد أن تموت الأحلام و نترك للأيام عنان الأمور و زمامها تأخذنا في طريق موحش تستأسد فيه الخيبات و الهزائم فتشل حركة الإنسان و تُلقي به حطاماً على قارعة الحياة.. فلا يبقى غير الألم و المأساة تسود الصفحات لما تبقى من عمر مكسور و ضائع...
أبدع تشيكوف في قصته هذه و هي عبرة لمن يعتبر.