السبت، 12 يناير 2013

قلعة .. قصة قصيرة

قلعة .. قصة قصيرة
كانت على قمة ذلك الجبل تتأمل القرية بصمت وتعود لتتثاءب وتنام دون أن يوقظها أحد..
مجللة بالغموض، والرعب يرسم ظلال الرهبة على أركانها وأسوارها التي فرّت منها بعض الأحجار..
وفي مساء العيد يخرج ساكنوها بفانوس ينشر الانقباض في قلوب أهل القرية فيكتفون بترديد آية الكرسي والاختباء تحت الأغطية..
لا أحد يقارع ما لا يرُى إلا في الأساطير التي تسردها الجدّات.. قصص جدّتي لها وقع آخر.. كانت تنفث الشجاعة في قلوبنا،
وتختم حكاياتها بعبارة: «من يتوكل على الله يحفظه» كنت في العاشرة والقلعة المهيبة لغز مؤرق.. أصبح فؤادي فارغاً إلا منها..
أجلس وصديقتي في الجبل المقابل كل عشية ثم نفكّر في كسر صمتها وإيقاظ موتاها بخطواتنا.. تصرُّ صديقتي على الرفض وأقسم أنا
على اقتحامها.. وأتى ذلك اليوم، لم تأت صديقتي إلى مكان جلوسنا المعتاد فجلست وحدي أتأملها والفضول بلغ مداه..
ماذا أنتظر؟! أخذت طريق النزول إلى الوادي ثم الصعود إليها.. الطريق الصخري الوعر يهمس لي بالعودة.. أوراق الشجر
تصفق وتصرخ فيّ بالرجوع.. الأشواك الصغيرة تتلقى قدميّ الحافيتين بتحية دموية لتحذرني من إكمال الطريق.. وصلت السور..
الصمت يصمّ الآذان، وأنفاسي اللاهثة تكسره بلحن نشاز. غراب يمرق من بعيد وينعب.. أحملق في الأرض، أفتش عن النمل فلا أجده..
عن ذاك الشوك الذي استوطن القرية فلا أجده.. عن قط كسول يسترخي تحت صخرة أو جوارها فلا أجد.. تملكتني الوحشة
وراحت ترسم لي مصيراً أسود والسور ملاذي منها.. أمدّ يدي اتجاهه فتتسمر.. الخوف يثرثر في أعماقي.. سيمسك بك الجدار،
وستنفتح هوة كبيرة وتبتلعك. ستتعالى ضحكات العفاريت فتصيبك بالجنون.. سيحملونك ويقذفون بك ككرة بشرية.. ستسلّين الموتى هنا..
وربما وضعوك في القدر ورقصوا حولك.. تراجعت قليلاً إلى الوراء أقلّب نظري في الصخور الضخمة التي صعدتها فإذا بها
مليئة بالمغارات المظلمة.. وعاد الخوف يهذي: «العفاريت هنا.. تأملي قليلاً وانتظري.. سترين شيئاً يلمع في الظلام
ثم فجأة يخرج العفريت ويخطفك.. سترين عيوناً فقط تتحدى الظلمة وتشعلها بلون اللهب..». ومن أعماقي أتت عبارة الأمل تطارد
الخوف وتشرق بشمس التحدي: «من يتوكل على الله يحفظه» أعيدها بصوت مرتفع يشعرني بالطمأنينة وأقرأ ما أحفظ من آيات في رأسي..
رأيت صديقتي تضحك وتصفني بالجبانة.. أستجمع فلول نفسي المبعثرة وأضع يدي على السور.. كنت أنتظر أن تُبتر يدي..
أن أطير إلى أعلى.. أن أتلاشى لكن شيئاً لم يحدث.. ركلت مخاوفي واتجهت صوب الباب راكضة.. هناك توقفت لبرهة..
شجرة الطلح حارس بألف خنجر ودمها الصمغي المسفوح على ساقها يصل إلى الأرض كبركة لزجة تصيد ما يعلق بها..
لم أجد مفراً من الانحناء.. بل والسير على أربع وأنا أدفع عن طريقي الشوك حتى دخلت فناءً متوسط الحجم والقلعة رابظة في الوسط..
أحجارها التي ترفعها يعجز عن حملها الرجال.. أذكر أن جدتي حكت لنا أن (العماليق) هم بُناة القلاع والسدود، ولكن الجوع حصد
أرواحهم ومن هاجر منهم في سنوات القحط خبأ الذهب في قلعته وجعل الجن حراساً عليه. أين باب القلعة؟ سألت نفسي وعيناي تبحثان
عنه.. من بعيد لاحت أحجار كثيرة كأنها درج عشوائي تسقط من مكان ما.. ركضت نحوها فوجدت مكان الباب في الأعلى والظلمة تتلصص منه
على الفناء.. صعدت ووقفت على العتبة.. الظلام يتأمل خيطاً من الشمس انسل إليه.. رائحة المكان غريبة.. لا صوت غير ضربات قلب
متسارعة تقرع طبلة أذني.. الفضول زيّن لي الأمر.. كان يدعوني بشوق لأكتشف المكان.. سيكون مثيراً أن أحكي لصديقاتي عن القلعة
وعن مغامرتي.. ستكون هناك حكاية تستحق السماع.. اقتحمت الظلمة والتصقت بالجدار أتلمسه وأتخذه دليلاً..
أقدامي تدوس على الحصى وأعواد صغيرة.. شعرت بأن دهراً مضى وأنا لم أصل للزاوية بعد.. خيط النور يهمس: اطمئني..
أصل إلى الزاوية أخيراً وأتجه وأكمل في شوق وخطواتي بدت أسرع.. وأضع قدمي على شيء ما.. فأرجعها سريعاً إلا أن صرخة
ألم كانت أسرع.. اندفعت للباب، تركت دليلي وركضت.. تقافزت العفاريت إلى مخيلتي.. كل ذرة في جسمي تطلب الباب..
أغادر القلعة.. أواصل الفرار.. الشوك.. الصخور.. أنفاسي اللاهثة.. جسدي المتشظي.. كل شيء يتطاير بسرعة رهيبة..
السور خلفي.. المغاوير تفتح أفواهها.. الغراب ينعق قريباً مني.. وأخيراً أسقط في بطن الوادي ألتقط أنفاسي.. أنفض الألم..
الدم يتسلل من أماكن شتى.. شوكة طلح في ذراعي.. ولا شيء غير الألم.. التفتُ نحو القلعة والصرخة تتردد بحدة في أذني..
أهمس لنفسي: «كانت قطة لا تخافي» وعلى صخرة قريبة من السور كانت قطة سوداء تنظر نحوي وقد أحنت ظهرها وكأنها ستنقض على عدو..
لم أتمالك نفسي.. صرخت برعب: «قطة سوداء؟!.. إنها ...» لم أكمل نزع الألم بعد.. عليَّ الفرار بسرعة.. بسرعة..


انتهت.
سبق و نُشِرت في المجلة العربية و في عدّة منتديات.

هناك تعليقان (2):