الأربعاء، 26 يونيو 2013

بسبب نحلة!

بسبب نحلة!

هناك حيث الغيم والضباب مات أبي، هناك بين ألف زهرة وزهرة أسلم أبي روحه، ومن هناك انطلقت ركائب الأحزان لتقتفي طريقي الطويل، وتدنس حرم أيامي بوابل من السخط، مات أبي.. مات أبي.. ولماذا السخط وليس من الموت مفر؟ أتذكره كل لحظة وأتذكر وجهه وتفاصيله، أتذكر الجرح العميق قرب شفته السفلى.. أبي الذي مات وعمري يقارب الثماني سنوات ولم أكبر بين يديه، مات هكذا بسبب نحلة، أتذكر المكان الذي شهد موته، أتذكر الأحداث كلها، نعم، لا يستوطن ذاكرتي كأبي، وهكذا هم الأحبة يسكنون منّا الروح والذاكرة وإن واراهم الثرى وغيّبتهم الأيام، أتذكر ذلك اليوم الرمضاني الحزين، عندما طلب من أمي أن تعدّ له قائمة المشتريات لأنه سيخرج إلى السوق، وفعلت أمي، فناداني وسألني إن كنتُ سأرافقه فوافقتُ على الفور وسبقته إلى السيارة، ومضينا في الطريق، وعند مفترق طرق أخذ أبي طريقاً غير طريق السوق فسألته فقال: لي صديق عزيز خطر ببالي الآن وسنذهب لنراه ثم نعود ونذهب إلى السوق، وهكذا أكملنا الطريق إلى صديقه الذي يسكن القرية القريبة، وهكذا كان الموت يتبع آثارنا قصصاً، أتذكر أننا وصلنا القرية ودخلناها آمنين، كان أبي سعيداً جداً عندما وجد صديقه خارج المنزل، لقد نزلنا من السيارة وسلّمنا عليه، وعندما التفت أبي يميناً شاهد مجموعة من خلايا النحل متراصة فوق بعضها، فقال، ومازلتُ أذكر قوله: (حمانا الله من هذا النحل، لقد لسعتني نحلة ذات مرة وكدتُ أن أموت)، ثم أدار وجهه نحو صديقه وأخذا يتجاذبان أطراف الحديث. أما أنا فلم أرفع عيني عن خلايا النحل التي بدتْ لي كأسطوانات خشبية وما هي إلا جذوع أشجار مجوّفة ومحكمة الإغلاق مع الجهتين لولا فتحة صغيرة في الأمام كان النحل يدخل ويخرج منها، كان للنحل صوت أزيز يملأ المكان، وكان يتجمع على باب الخلية بعضه فوق بعض، وكان أمام الخلايا وعاء كبير مملوء بالماء، ولم تمضِ سوى لحظات حتى وجدتُ أبي ينثني ثم يلصق ركبتيه بالأرض ثم سقط على جنبه والتصق وجهه بالتراب، أذكر أنه لم ينطق بحرف وإنما كان صامتاً مغمض العين، عندها لا أدري ما فعلتُ، لقد صرخت من أعماقي أناديه أبي.. أبي.. أبي.. وعندما لم يجِبني بكيتُ وأخذتُ أهزه هزاً وهو لا يستجيب لي، وأخذت أرفع وجهه عن الأرض وأنا أصيح، كان صديقه يردد لا حول ولا قوة إلا بالله وهو يضع يده على رقبة أبي ويحركها مرة إلى الأعلى ومرة إلى الأسفل، ثم مدد جسده على التراب وسار مبتعداً، وبقيتُ أبكي على صدره وأنوح بأعلى صوتي أبي.. أبي.. لم تمضِ دقائق حتى عاد صديق والدي ومعه رجلان، فحملا والدي بين أيديهم وأخذاهُ إلى سيارتنا المتوقفة قريباً منّا، بالكاد ابتعدت عن جسده المسجى ولم تتوقف دموعي، أذكر أنهم أبعدوني بشدة فسقطتُ على الأرض أبكي وتدحرجتُ فسقط حذائي وكنتُ أظن أن أبي سيلتفت من بين أيديهم ويناديني، كنتُ أظنه نائماً وسيفيق بين أذرعهم ويناديني.. ولكنه لم يلتفت ولم ينبس ببنت شفة.. قمتُ من سقطتي وركضتُ خلفهم وركبت السيارة عند جسده الممدد في المقعد الخلفي.. بكيت على صدره حتى نمتُ ولم أستيقظ إلا بين أحضان أمي المكلومة وجدتي المفجوعة وجدي الذي يستمسك بعصا الاصطبار كي لا يسقط.. وكبرتُ يتيماً بسبب نحلة لم تجد غير أبي تسدد له ضربتها.. ساخطاً على كل النحل وإن أهدانا العسل.. فلا عسل بعد موت أبي.

نُشرت سابقاً في صحيفة الشرق:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق