السبت، 2 فبراير 2013

هل أحتفل به؟!


هل أحتفل به ؟!

علّمتني الصمت عندما رحلتْ .. و علّمتها المواجع عندما كنتُ بحضرتها ...
اليوم له نفس الرائحة التي سكَنتْ حواسي منذ طفولةٍ ضائعة .. أمي و المطر و شلال حزن يمزق سنين العمر حتى آخر الخُطى ...
المطر الآن يطرق سمع المكان الآهل بالعطش .. أودية قريتي ممزقة الأحشاء ترفع أكفّ الضراعة إلى مُنزل الغيث .. و أشجار الرمان تلتحف العراء و تتشبث بالأرض من ريح لا ترحم .. أما الجبال السود و الحمر فلا ملامح لها غير القسوة و جبروت القوة ... اليوم ، قَدِمت الريحُ بالغمام حتى غطى عين الشمس ( كما يقولون ) ، و الجميع تركوا منازلهم و خرجوا لاستقبال المطر كلٌ على طريقته ، عجباً لهم ! هؤلاء سكان القرية الذابلة غادروها منذ أمدٍ طويل ، و لكن القلوب تحنّ إلى الألم في ساعات الصفو .. وحدي لم أغادر المكان ، بقيتُ مع عجائز القرية أحتسي مرارة القهوة صباحَ مساءَ و أحفر في الذاكرة ذكرى لا تموت ...
من نافذة الغرفة بدأتُ أُراقبُ احتفالهم بالمطر ، بعضهم يرفع رأسه إلى السماء ليعطر أنفاسه و وجهه بالمطر ، و بعضهم يرفع رأسه و يفتح فمه ليرتوي من السحاب مباشرة ، أما الأطفال فدخلوا تحت المزاريب ليغتسلوا بالمطر و تراب الأسطح صار صابوناً طبيعياً ... 
كم من السنين مرّت على ذلك اليوم ، أمي تصارع المطر و المرض في منزلٍ تعلو جدرانه السماء ، و الليل و الألم تضافرا في تحطيم امرأة كالنخيل لا ترضى إلا بالشموخ ، و التهكم على ريحٍ خائبة حاولت كسره ،، لكنها كُسِرَتْ !
لا أحد من هؤلاء المحتفلين كان هنا ليُقِيمَ مهرجاناً كهذا ، فرّوا إلى مدنٍ تخطف الأبصار ليبحثوا عن المال و السعادة ، تُرى ما الذي دهاهم اليوم ؟! 
أمي خرجت من بقايا منزلنا في اليوم التالي ، و في ساعة الأصيل كهذه الساعة ..
كانت الأرض قد ارتوت من الماء ، و السماء ما زال لديها فيض من الدموع تنثره على أرضٍ طينية ، و الرعد يُخيف في كفي دميتي المُتعبة ..
كان المطر يمزقها و هي تنزلق أمامي في ممر صغير صنعه المطر بالقرب من منزلنا ، كانت تنزلق إلى الأسفل حيث الصخور الناتئة و أكوام من الطوب و الحديد التي عفى عليها الزمن .. كادتْ أن تنجو لولا أنها أخطأتْ و تشبثت بصخرةٍ لا تقوى على حملها لتزلق هي الأخرى على أمي ..
لم يحفل بموتها أحد ، كوردة ذابلة بعد أن قُطِفَتْ أُلقِيَتْ فوق شارع تلوكه الأقدام لتموت أكثر و أكثر ..
ما زالت السماء تُمطر و الناس تحتفل .. و ما زِلتُ حتى الآن أفكر .. هذا المطر الذي أسكن أمي في جوف الأرض و أعطى الحياة لغيرها .. هل أحتفل به ؟!!

نُشرتْ في المجلة العربية و منتدى أوفاز الأدبي:)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق